مع العد التنازلي لاجراء استفتاء الجنوب السوداني بشأن حق تقرير المصير في التاسع من يناير المقبل, فإن هذا الاستفتاء قد يسفر عن قيام دولة عربية افريقية في سياق الدائرة النيلية التي تضم حاليا ثلاث دول اعضاء في الجامعة العربية( مصر, السودان, اريتريا). وكذا في الاتحاد الافريقي مع الدول السبع الأخري( اثيوبيا كينيا أوغندا تنزانيا رواندا بوروندي زائير). وهذا يعني أن دولة جنوب السودان بعد الانفصال سوف تلحق كدولة مستقلة مع دولة الشمال السوداني في عضوية الاتحاد الافريقي بينما من الصعب قبول عضوية الجنوب السوداني في الجامعة العربية. وفي هذا السياق لا عجب أن يتم اتفاق مبكر بين زعماء الشمال والجنوب السوداني علي إقامة حدود تسمح بحرية حركة التجارة والعبور من أراضيهم في حالة الانفصال ضمن اتفاق إطار لحل قائمة من النزاعات بين الجانبين. واكثر من هذا فإن أبناء الجنوب أقبلوا مبكرا بالآلاف علي مراكز تسجيل الاسماء للمشاركة في الاستفتاء وسط حشود تغني وتقرع الطبول في جوبا وكأنهم يفصحون مبكرا عن نواياهم الانفصالية. {{{ ويخطيء من يعتقد أن الاستفتاء بمثل تلك المظاهر والممارسات سوف يسفر بأمانة عن الارادة السياسية للشعب السوداني في الشمال أو في الجنوب أو في الشمال والجنوب معا. وليس أدل علي هذا ان التغطية الاعلامية التي ترعاها التيارات السياسية في كل من الشمال والجنوب تشير بين حين وآخر إلي وجود تيارات سياسية في الشمال تدعو الي الانفصال, هذا فضلا عن وجود تيارات مؤيدة للانفصال داخل الجيش. يعني هذا أن استفتاء الجنوب السوادني بمفرده وأيا كانت نتيجته, لن يهييء السودان الي الاستقرار السياسي المنشود بين يوم وليلة لأن زعماء الشمال والجنوب السوداني لا يمتلكون وحدهم كل مفاتيح القضايا العالقة, ويكفي الاشارة الي تعهد القوات المسلحة السودانية( التي تمثل الشمال) والجيش الشعبي لتحرير السودان( الذي يمثل الجنوب) بعدم العودة الي الحرب مهما كانت نتيجة استفتاء الجنوب. ومثل تلك الوعود السياسية لا تجدي دون تقديم ضمانات مسئولة في إطار جدول زمني معلن من قبل الطرفين, ويكفي الاشارة هنا الي قرار الطرفين بترك القضايا الخلافية للجنة مشتركة بينهما للبت فيها واتخاذ أي إجراء بشأنها, مشيرين الي ضرورة التعايش السلمي والتواصل الايجابي بين الجيشين لتعزيز تعاونهما الامني والعسكري بما يعزز الثقة ويحفظ الامن والسلم( وفقا لاعتقادهم). {{{ يعني هذا أن الاستفتاء بمفرده وأيا كانت نتيجته لن يهييء السودان الي الاستقرار حتي يتم الاستفتاء بالنزاهة والشفافية, ويحظي باحترام جميع الاطراف ويتم التعامل مع تداعياته وفي مقدمتها تهيئة الاجواء للعائدين من الشمال الي الجنوب, وكذا العائدون من الخارج... الخ ويتطلب هذا تحديد فترة انتقالية علي غرار مبادرة ثورة 23يوليو1952عندما أعطت حق تقرير المصير للجنوب السوداني واجرت استفتاء عام1955 علي مستوي شمال وجنوب السودان وتم تحديد الفترة الانتقالية لتمكين الشعب السوداني من ممارسة حق تقرير مصيره حسب المادة الأولي من اتفاقية 21فبراير 1953واعتبرت ثورة23يوليو الفترة الانتقالية تمهيدا لانهاء الادارة الثنائية( المصرية البريطانية) أولا وانتقال الادارة إلي السوادنيين أنفسهم. وشمل الاتفاق في مادته الحادية عشرة انسحاب القوات العسكرية المصرية البريطانية من السودان أما المادة الثانية عشرة فقد اعطت السودان حق الاستقلال التام أو الاتحاد مع مصر. وأوفدت حكومة 23 يوليو1952 الصاغ صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة آنذاك الي السودان مرات عديدة للاجتماع مع زعماء السودان علي اختلاف انتماءاتهم السياسية حيث طلب منهم تدعيم الاتفاقية المصرية البريطانية والحفاظ علي وحدة السودان شماله وجنوبه. واختار شعب السودان الاستقلال الكامل في 29نوفمبر1953 فأذاع صلاح سالم الذي كان يتولي وزارة الارشاد القومي آنذاك بيانا جاء فيه:( أن مصر لتطمع مخلصة في أن يتبوأ السودان مكانه المرموق في سياق العروبة, قويا, منيعا, مرهوب الجانب). {{{ وأخيرا فإن الثوابت التي تربط الشعبين المصري والسوداني عبر عصور التاريخ القديم والوسيط والحديث تعيد تنشيط ذاكرة الاجيال المعاصرة بمشروع وحدة وادي النيل الذي تطلع اليه الاجداد والاباء في البلدين عبر مختلف العصور ولا تزال الوحدة شعارا ونوعا يمتلك أفئدة نخب مصرية وسودانية لها مكانتها الفكرية ولها دورها السياسي ويتدفق فكرها بين حين وآخر تدفق غزارة المياه التي تنساب بين البلدين عبر نهر النيل الخالد. ومما يعزز فكرة وحدة وادي النيل تاريخيا استنادها الي الميراث الجغرافي الفريد من نوعه سواء من حيث وحدة الشريان المائي أو الامتزاج السلالي, هذا فضلا عن التمازج الحضاري المميز ابتداء من القاسم المشترك بين الحضارتين النوبية والفرعونية منذ أقدم العصور. المزيد من مقالات د. أحمد يوسف القرعى