أتصور أن كثيرين منا أصبحوا يدركون القيمة العليا لأمن الوطن بعد أن سمعوا تهديدات من تنظيم يعمل بالعراق, ولكنه أعطي لنفسه الحق في أن يحسم أو علي الأقل يتدخل في مسألة جدلية لا تخص أحدا سوي المصريين أنفسهم. في جانب من تفسير هذه الخطوة البائسة أن التنظيم يواجه منذ مدة طويلة عدة أزمات تتعلق بهويته وطبيعة قيادته والتوجه العام الذي يتحرك علي أساسه, فضلا عن فقدان الأمل في الانتصار. وكما هو واضح من اسم التنظيم أنه يتعلق بالعراق, فلماذا يقحم نفسه في شأن مصري خالص؟ وهذا هو السؤال الأهم والأجدر بالتحليل والتأمل. والراجح أن تنظيمات العنف والإرهاب التي ترتبط بالقاعدة فكريا وأيديولوجيا, وبرغم الزخم الاعلامي الذي يحيط بأعمالها العنيفة كما هو الحال في العراق واليمن وباكستان وافغانستان, إلا انهم يدركون أن كل هذا العنف والإرهاب لن يقيم نموذجا للحكم مهما تم رفع شعارات دينية براقة, وأن كل ما يفعلونه هو التخريب والتدمير وترويع الآمنين من المسلمين وغير المسلمين, لعل ذلك يحبط اعداءهم ومن ثم يقدمون لهم قرابين الاستسلام, وبذلك يحدث الانتصار المأمول لديهم, والذي يبدو متعثرا لزمن طويل مقبل, والمؤكد أنه لن يأتي أبدا. ومن هنا تأتي دورة التحول ما بين مواجهة العدو القريب وهو السلطات المحلية في البلدان العربية والإسلامية, وبين مواجهة العدو البعيد أي القوي الكبري وعلي رأسها الولاياتالمتحدة. وهي دورة لا تعكس تطورا فكريا وعمليا بقدر ما تعكس ارتباكا وتخبطا في قيادة التنظيم نفسه سواء كان محليا صرفا أو مرتبطا بشكل ما مع تنظيم القاعدة الأم. وما يجري في كل من اليمن والعراق وباكستان يثبت ذلك تماما. والجديد في بيان التنظيم العراقي الإرهابي انه ربط بين تفجير إحدي الكنائس المسيحية الكاثوليكية وقتل روادها الأبرياء, وبين حدث مصري خالص يتعلق بسيدتين يثور جدل حول إسلامهما أو استمرارهما في التمسك بدينهما المسيحي. وهو حدث لا يبرر إطلاقا ما قام به التنظيم العراقي من قتل للنفوس البشرية التي حرم الله قتلها, الا إذا كانت قتلت نفسا اخري أو أفسدت في الارض, وهو ما ليس بثابت بالمطلق لا علي مسيحيي العراق ولا علي أبناء العراق سنة كانوا أو شيعة, وحتي إن كان هناك من أفسد منهم بشكل او بآخر فمحاسبته هي مسئولية مؤسسات الدولة الشرعية في العراق وليس مسئولية تنظيم ارهابي غير شرعي لا هم له الا أن يعيث في الأرض فسادا وعنفا وجورا. واستطرادا فإن تحرير اسري هذا إن ثبت هذا التوصيف شرعا علي اناس بعينهم لا يبرر الإقدام علي قتل جماعي لأناس آخرين لا علاقة لهم بالأمر أصلا. ومثل هذا البعد يكشف عن ورطة التنظيم في الداخل العراقي كما يجسد إفلاسه الفكري والديني. وهنا يتبلور الدرس الاول, ذلك أن التنظيم حاول ان يحل ورطته وأزمته الهيكلية في العراق من خلال افتعال صراع مع دولة ومجتمع آخر تماما, لعل ذلك يعيد بريقا إعلاميا او زخما معنويا لأعضاء التنظيم, ومستغلا في ذلك حالة ساخنة يعيشها المجتمع المصري منذ نحو العقد, تتعلق بالاحتقان الطائفي بين شقي الأمة المصرية. وهنا يتجلي الدرس الثاني ويتعلق بأن المناعة الذاتية للمجتمع وجودا أو عدما هي المسئولة عن صد تهديدات الخارج او استجلابها بأي شكل كان. وأن اصطناع توتر طائفي من شأنه ان يفتح ثغرات في ثوب الوطن. إن المناعة المطلوبة هنا تتجلي في التوافق العام علي أن التعامل مع قضايا الوطن الخلافية يجب أن يتحلي بأكبر قدر من المسئولية والحكمة, وأن يتم التعامل معها من خلال آليات محلية ووطنية صرفة, وعدم اللجوء للخارج بأي صورة كانت, او اصطناع معارك لفظية أو تاريخية من شأنها تدمير العلاقة الحميمة التي تشكلت عبر مئات السنين. فبالحكمة والمسئولية تتحقق مناعة ذاتية للوطن ككل تحميه من ضعاف النفوس داخله أولا, ومن مؤامرات وخطط القوي المنافسة والمعادية من جهة ثانية. وإذا كنا كمصريين قد جربنا بالفعل الشرور التي تأتي بها التنظيمات الإرهابية ودفعنا ثمنا غاليا لمواجهتها والانتصار عليها طوال عقد كامل, فإن مسئولية مواجهة الاختراقات أو محاولات الصيد في الماء العكر هي مسئولية المصريين جميعا, سواء كانوا في مؤسسات رسمية أو مؤسسات مدنية او دينية. والحق أن عديدا من المصريين لم يتصور أن تلويح البعض بقوة خارجية للحصول علي منافع داخلية أو ابتزاز السلطة القائمة أو التعالي علي أحكام قضائية قد يصور الامور علي غير حقيقتها, ويفتح شهية الغزاة والطامعين والمغامرين. والبعض من هؤلاء يقدم نفسه باعتباره الوحيد القادر علي تقديم صنوف الدعم والحماية للأقلية المضطهدة والمغبونة, وهو في حقيقة الأمر ليس إلا منافق أفاق لا يجلب سوي الشر والخراب, ولننظر معا في حالتي العراق وأفغانستان لندرك ما الذي جلبه الاستعمار للوطن. وليس بخاف أن صورة مصر في الخارج وفي وسائل الاعلام العالمية ليست علي ما يرام, وهي بحاجة إلي عملية ترميم كبري وبأسرع وقت ممكن. وهي الصورة التي شاركت وسائل إعلام مصرية وأخري عربية ودولية في تنميطها سلبيا وجعلها كالبقرة المقدسة التي لا يجوز حتي النظر إليها. كما ساعد بعض الناشطين المصريين في تسويقها في الخارج باعتبارها مقدمة لسقوط البلد قريبا, الامر الذي أوجد أوهاما لدي كثيرين بأن مصر علي اعتاب ثورة عارمة ستأخذ الاخضر واليابس. وهنا يتجلي الدرس الثالث. فمثل هذه الصورة الإعلامية السلبية عن الوطن من شأنها ان تغري آخرين بأن يتصرفوا باعتبارهم بديلا للدولة المصرية, أو أنهم قادرون علي جلب الحقوق التي عجزت الحكومة عن تلبيتها, وأنهم قادرون علي تلقين الحكومة والمؤسسات دروسا في الديمقراطية والحرية, او قد يتصورون انهم قادرون علي معاقبة من أساء إلي جزء آخر من المصريين. وهكذا تتولد الأوهام بأن مصر بلد عاجز وانه بحاجة إلي الدعم من الخارج ليعوض أوجه النقص في الداخل, او انه بلد هش قابل للاختراق. وفي جانب من تحرك التنظيم العراقي البائس تجاه مصر هو ذلك التصور بأن المجتمع المصري بات مفتتا, وأن النزاع بين المسلمين والمسيحيين فيه يوفر فرصة للانقضاض علي الوطن ككل, وان يوفر للقاعدة بيئة أخري آمنة في بلد يعد قاعدة للعرب جميعا, مما يضفي علي القاعدة انتصارا كبيرا. إن الأمر علي هذا النحو يؤكد أن المصريين أنفسهم مسلمين ومسيحيين بحاجة إلي إعادة النظر في الطريقة التي يتعاملون بها مع قضاياهم الذاتية, وأنه بدلا من تصور أن الاستعانة بالخارج قد توفر أرضية أكبر لتحقيق المكاسب علي حساب الشقيق الآخر في الوطن, فإن الأوفق والأنسب هو الحوار البناء من أجل إيجاد حلول وطنية مائة في المائة, تستلهم تاريخ العيش المشترك ووحدة الوطن وتماسك المجتمع, وخبرات الانتصار علي تحديات وتهديدات الخارج. ولا عيب هنا أن يقول المرء إنه أخطأ في حق الوطن, وإنما العيب ان يستمر المرء علي عيبه في حق الوطن وفي حق نفسه معا. لقد جاءت ردود الفعل المؤسسية والشعبية علي تهديدات القاعدة للكنائس الوطنية لتثبت ان المصريين لا يفرقون بين حماية المسجد وحماية الكنيسة, فكلاهما بيوت للعبادة وروادها مصريون مؤمنون بالله الخالق, وحق الحماية للمبني والعباد لا مساومة عليه ولا تنازل عنه. وهنا يتجلي الدرس الرابع حيث أثبت الوطن بمؤسساته ومواطنيه أنه لا يفرق بين أبنائه, فهم سواسية أمامه بغض النظر عن دينهم وعقيدتهم, وهم في الأول والآخر مصريون حتي وإن غضب البعض أو أفرط في تعاليه. وأن واجب الحماية لهم جميعا بلا استثناء أو من, فالوطن لا يمن علي أبنائه. والبعض قد يري في ردود الأفعال هذه امرا عابرا أو استثنائيا, وهؤلاء مخطئون قطعا, لأن تاريخ مصر عامر بمشاهد الوحدة الوطنية العميقة, والمهم أن يستوعب الحاضر دروس التاريخ ليقيم ويؤسس فوقها بنيانا أكثر صلابة, وليس كما يفعل قصار النظر أن ينقلب عليها ويدمر نفسه والوطن معا.