لقد بدأت الاستفادة من الحقائق النفسية في المجالات المتعددة لممارسة السياسة مع بداية ممارسة الإنسان للسياسة, فقد عرف البشر الحرب النفسية ومارسوها منذ عرفوا ومارسوا الحرب بمختلف أسكالها, أي منذ فجر التاريخ رغم أن المصطلح لم يبدأ تداوله منذ نذر الحرب العالمية الأولي, بعد أن تطورت الممارسة القديمة من صرخة توقع الرعب في قلب العدو, أو تثير الشجاعة في قلب المهاجم, إلي أن أصبحت علي ما نشهده اليوم من منشورات واذاعات ومحطات بث تليفزيوني, ولكن علم النفس منذ أصبح علما كان ينأي بنفسه عن خوض غمار السياسة, وربما يرجع ذلك لأنه أي علم النفس كان آخر العلوم انفصالا عن الفلسفة, ومن ثم كان يريد ان يولي ظهره لكل ما بدا له نظريا فلسفيا, لينفي عن نفسه شبهة الانحياز اللصيقة بالممارسة السياسية, حفاظا علي تلك الهالة من الموضوعية التي تحيط بالعلوم الطبيعية. تري كيف بدأت النشأة الأكاديمية التطبيقية لعلم النفس السياسي رغم ذلك المناخ المتحفظ؟ لقد كانت واقعة تدمير سلاح الجو الياباني للأسطول الأمريكي في ميناء بيرل هاربور بمثابة الصدمة الشديدة التي أدت بالعقل الاستراتيجي الأمريكي إلي التسليم بقصور فهمه لمحددات السلوك الياباني, وحين طلبت الحكومة الأمريكية عون علماء الإنسانيات في هذا المجال, واجهت هؤلاء العلماء مشكلة أن إنجاز تلك المهمة سوف يقتضي تخليهم عن بعض ما كان يعد ضمن الضوابط الصارمة للعلوم الإنسانية سواء من حيث ضرورة التعامل المباشر مع موضوع الدراسة فضلا عن ضوابط اختيار العينات الممثلة للمجتمع حيث إن ظروف الحرب لا تتيح لهؤلاء العلماء الاحتكاك المباشر بعينة ممثلة للشعب الياباني, ولم يكن أمام من قبلوا القيام بتلك المهمة سوي ابتكار أساليب جديدة تمكنهم من الدراسة العلمية عن بعد بعبارة أخري فقد كانت واقعة ميناء بيرل هاربور بمثابة الشرارة التي أدت إلي نشأة فرع تطبيقي جديد من فروع علم النفس في الولاياتالمتحدةالأمريكية هو علم النفس السياسي. ولم تختلف البداية في بلادنا كثيرا فقد كانت هزيمة1967 بمثابة الصدمة التي أدت بالعقل الاستراتيجي المصري إلي مراجعة شجاعة للعديد من مسلماته الفكرية الخاطئة بشأن الصراع مع إسرائيل بعد أن تحولت إسرائيل المزعومة إلي كيان مسلح شرس استطاع ان يلحق بنا هزيمة مروعة, واتخذت القيادة المصرية قرارها بأنه لابد من معركة قادمة لتحرير الأرض وأن الإعداد لتلك المعركة لا يمكن أن يقتصر علي الإعداد العسكري بل ينبغي أن يسبقه ويواكبه الإعداد العلمي والنفسي, وشمل ذلك بزوغ الحاجة العملية لفهم الاسرائيليين فهما علميا رغم استحالة الاحتكاك المباشر بهم, وتجسدت تلبية تلك الحاجة في قرار عبد الناصر إنشاء مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية عام1968 في مؤسسة الأهرام بقيادة الأستاذ هيكل, وأسندت رئاسة المركز للصديق الأستاذ حاتم صادق خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, وكنت ضمن الذين تم الاتصال به ودعوتهم للنظر فيما يمكن أن يسهموا به في أنشطة هذا المركز الوليد, وتجسد الأمل شيئا فشيئا, بسقوط المحظور, حيث أتيحت الفرصة في هذا المركز للاطلاع علي ما ينشر في إسرائيل وعن إسرائيل, وكانت باكورة منشورات المركز عام1971 كتيب لي بعنوان تجسيد الوهم دراسة في السيكولوجية الاسرائيلية, وبفضل ما لقيته دراستي الأولي هذه من تشجيع واعتراف, وافقت كلية الآداب بجامعة عين شمس علي تسجيل رسالتي للحصول علي درجة الدكتوراه في موضوع الشخصية الإسرايلية: دراسة في الاشكنازيم واجتذبتني بعد ذلك الممارس العملية بمشاركتي في إجراء مقابلات مع أسري حرب أكتوبر1973 من الإسرائيليين, وكذلك باقترابي من أنشطة منظمة التحرير الفلسطينية خاصة في فترة بقائها في بيروت, واختياري ضمن الوفد المصري في مؤتمر مدريد للسلام حيث كنت المتخصص الوحيد في علم النفس السياسي بين أعضاء الوفود المشاركة في المؤتمر. وأخيرا وبفضل حماس الصديق الدكتور جابر عصفور تمكن المركز القومي للترجمة من إنجاز الترجمة العربية لكتاب المرجع في علم النفس السياسي التي صدرت منذ أسابيع قليلة والتي شرفت بمراجعتها وتقديمها ويكتسب ذلك الكتاب مكانة متميزة بين الكتب التي تناولت علم النفس السياسي, وذلك لعدة اعتبارات: الاعتبار الأول, أنه يصدر عن الجمعية الدولية لعلم النفس السياسي وهي التجمع العلمي الذي يضم غالبية المشتغلين في هذا التخصص, ومن ثم فقد أتيح لمن قاموا علي إصداره فرصة المفاضلة والانتقاء بين مجموع المتخصصين لاختيار أفضلهم. الاعتبار الثاني, أنه يصدر بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود علي تكريس علم النفس السياسي كمجال متميز من مجالات العلوم الإنسانية. الاعتبار الثالث, ولعله الأهم فيما نري أن غالبية من قاموا بتحريره وكتابة فصوله, ليسوا مجرد مجموعة متميزة من المتخصصين في علم النفس السياسي, ممن أتقنوا حرفتهم فبلغوا بها غاية التخصص المهني الأكاديمي فحسب, ولكنهم إلي جانب ذلك قد حاولوا أو حاولت أغلبيتهم ممارسة علمهم عمليا, أي الاقتراب من ممارسة السياسة بشكل أو بآخر, والمتأمل في سيرهم الذاتية يكتشف أنهم ينتمون بشكل عام لتيار معاد للحروب والدكتاتورية والعنصرية, منحاز إلي الديمقراطية والسلام والمساواة. تبقي ملاحظة أخيرة لقد تواري بعد انتصار أكتوبر اسم مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية الذي احتضن الحلم القديم ليحل محله مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية, الذي اتسعت نشاطاته تحت قيادة الصديق سيد ياسين ثم الصديق عبدالمنعم سعيد, وان ظلت فيه بقية من عبق الاهتمام القديم تتمثل في واحد من برامجه البحثية يحمل اسم برنامج الدراسات الإسرائيلية تري هل يمكن أن نشهد في المستقبل تزايدا في اهتمام مؤسسة الأهرام بالدراسات الفلسطينية والصهيونية في ضوء ما تشهده ساحة الصراع عبر السنوات الأخري من تحولات بل وتهديدات جديرة بمزيد من الاهتمام؟ هل يمكن مثلا أن يتحول برنامج الدراسات الإسرائيلية إلي وحدة للدراسات الفلسطينية والصهيونية إلي جوار بقية وحدات المركز؟