في رائعة يوسف إدريس بيت من لحم, لا يكتفي زوج الأم الكفيف بامرأته. بل يفسق أيضا ببناتها الثلاث وعلي الرغم من أن الجميع يعرفون الحقيقة المرة, إلا أنهن يكذبن علي أنفسهن. فكل واحدة من النساء الاربع, تتظاهر بأن الآخريات لا يعلمن شيئا, أما الكفيف فيتخذ من عماه ستارا لإجرامه. (1) للمرة الألف, فضحت السيول الحقيقة المفزعة, فالدولة بجلالة قدرها, اتخذت من مجاري السيول مواقع لإقامة قرية أوليمبية في العريش. وسمحت بإقامة عشرات القري علي امتداد شمال وجنوب سيناء, وفي صعيد مصر في ذات المجاري. ولم تكتف بذلك. بل تمادت فأقامت أبراج الكهرباء ذات الضغط العالي القادمة من السد العالي في مجاري السيول. هل رأيتم بعد ذلك مأساة؟ المدهش, أن هذا تم بالرغم من تحذيرات ابناء العريش من مخاطر البناء في هذه المجاري. ولابد أيضا أن المهندسين حذروا بشدة من اخطار تشييد ابراج الكهرباء في مثل هذه المواقع. تري هل كان المهندسون الذين انتقدوا هذه التصرفات لا يفهمون؟ هل كانوا يحقدون علي المسئولين ويريدون ان يعيبوا عليهم إنجازاتهم ويظهروا الضعف والتهالك الذي تتميز به هذه الإنجازات؟ بالطبع لا ولكن لا شك ان من اختاروا أن يفعلوا ذلك, فعلوه بذات النية الحسنة, التي جعلت الدبة تقتل صاحبها بينما هي تقصد أن تهش الذبابة من علي وجهه. (2) حديث السيول هو قصة لا تنتهي أبدا في سيناء أو في الصعيد. هو جزء من حكاية الحياة والموت علي هذه الارض. فكيف يمكن أن يتصرف انسان ويقيم حياته وحساباته, علي قاعدة أنه بما ان السيول لم تحدث منذ10 أو15 سنة فهي اذن لن تقع ؟ من قال هذا؟ المؤسف أنه لم يترتب علي هذا الكلام الأجوف إلا تعريض شبكة الكهرباء القومية لأخطار كانت في غني عنها, مع ما يترتب علي هذا من خسائر مادية, ومن نقص في الاحمال لفترة من الوقت وخفض في الاستهلاك وفي حجم الانتاج الكلي للكهرباء؟ ثم تلك البيوت التي تهدمت, وأثاثها الذي تبدد, والمدخرات القليلة التي كانت بها وضاعت مع السيل؟ والاسر التي تشردت, والحيوانات التي نفقت, تخيل أن رجلا أو أسرة كانت تملك رأسين من الماشية أو بضعة رؤس من الخراف والماعز, وعدة دجاجات, وكانت هذه الأسرة تعتمد علي هذه الحيوانات في مواجهة تقلبات الزمان وغائلة الأيام, وجدت نفسها فجأة, هكذا بلا شيء إطلاقا.. لا بيت, لا سرير, لا غطاء, لا ملابس, لا حيوانات.. ماذنب هذه الأسرة, والأسر الأخري سكان القري التي دمرها السيل؟ لقد تعايشت الدولة بكل ما فيها من برلمان, ومجالس شعبية ومحلية ومحافظات ومجالس مدن وشرطة وقضاء وتعليم وكهرباء.. تعايش هذا كله مع وجود هذه القري في هذه المناطق المعروفة بأنها خطوط سير السيول, ما ذنب هؤلاء الناس الفقراء؟ هل ذنبهم أنهم وثقوا أن الحكومة لا يمكن أن تختار شيئا يضرهم؟ هل المطلوب من كل إنسان أن يكون خبيرا في الهندسة والجغرافيا وفي الطقس وفي السيل قبل أن يقرر أين يقيم وأين يبني بيتا؟ المذهل في الأمر أن الدولة ذاتها بكل ما تملك من أدوات المعرفة والعلم والخبرة التي تستطيع بها أن تتنبأ بالمستقبل.. هذه الدولة ترتكب الخطأ الذي يرتكبه مواطن جاهل وفقير, فتقرر انفاق الملايين في قرية أوليمبية يأتي السيل فيدمرها؟! لكن العذر الوحيد للدولة في تصرفها بهذه الطريقة أن أحدا لن يحاسبها, فلسوف تلجأ إلي فرض ضرائب لكي تعيد بناء ما دمره السيل بذات الشكل الخطأ في مكان آخر خطأ حتي يأتي سيل ثان أو حادث جديد أيا كان لينهدم المبني..! ولا بأس في ذلك مادامت هناك ضرائب سوف يدفعها مواطن!! أما المواطن فلسوف يتعين عليه أن يعمل من البداية ولعل وعسي أن يستطيع تعويض خسائره!! (3) لن أنسي ما حييت مشهد سيل ذات شتاء في مدينة الفيوم, كان ذلك في نوفمبر1972 هطلت الأمطار غزيرة طوال الليل. واستدعت الظروف المرور ببعض الاحياء, ظهرت البيوت غرقي بالمياه, كانت منخفضة عن مستوي الطريق, علي امتداد البصر, تجد المراتب والبطاطين والالحفة والوسائد والملابس منشورة علي أسلاك طريق السكك الحديدية أو أسوار أي مبني قريب, والأشرس من كل هذا أنك في ذاك الصباح الباكر والبرد قارس والهواء لافح زمهرير تجد الناس وقد تجمعوا زرافات هنا وهناك في اسمال مبلولة لا يمكن وصفها بأنها ملابس وهم يرتجفون بحثا عن أشعة الشمس أو في انتظار سطوعها لعلهم يجدون فيها ما يدفئهم, كان المشهد يبعث علي الأسي والحزن, تصور أن البنات الصبايا والأطفال والنساء والشيوخ لايجدون ما يستر ابدانهم ويصون كرامتهم بأدني معاني الكرامة فهل هناك ابسط أو أيسر من ضمان حرمة الجسد؟! تصور أنك في لحظة منكودة من الزمان حتي هذا الأمر البسيط يصبح عزيز المنال!؟ إنه نفس الشيء وذات الخطأ يتكرر باستمرار ودون حساب! القصة تذكرك بالجراج الذي اقيم في ميدان رمسيس ثم تقرر هدمه بعد أن تكلف36 مليون جنيه, وتذكرك بمستشفي معهد الأورام الذي أقيم وأصبح آيلا للسقوط بعد16 عاما, أو بالبناء في حرم جبل المقطم الآيلة صخوره للانهيار وبالمحافظات التي تسمح بامداد الكهرباء والطرق والمدارس والشرطة إلي أحياء عشوائية أؤ حتي بالبناء علي الأرض الزراعية العزيزة برغم أن الصحاري مترامية, المذهل أننا نعرف الجريمة التي نرتكبها مع سبق الاصرار وندعي كلنا أننا لا نراها, وامعانا في الكذب علي أنفسنا ندعي أننا نكتشفها حين تقع الواقعة ونصيح بأعلي أصواتنا.. اضبط.. قف هناك.. بالرغم من أننا غارقون فيها حتي رءوسنا.