هناك فريق كل مهمته في الحياة أن يسحبونا إلي نفق التخلف والجهالة.. يريدون لنا ولهم أن نعيش في عصر الظلام بعيدا عن العمل والتقدم.. ومعظم هؤلاء للأسف الشديد مجرد محبي الشهرة. يسعون إلي إثارة الرأي العام لتنتشر أسماؤهم بين الناس دون حساب لما قد يحدث نتيجة عملهم أو فعلهم.. المهم هو أن يشتهروا وتعلو أسماؤهم بين الناس. وأصبح هؤلاء يتخذون من الفتوي في الدين وفي كل أمور الحياة, بل والموت, سبيلا للتكسب والشهرة وإن ادعوا غير ذلك, فتري الواحد منهم يحدثك عن مدي مسئولية من يجلس علي كرسي الإفتاء وقد يبكي ليشعرك بفرط المسئولية, ولكنه لا يتورع عن الإفتاء وإطلاق الفتاوي دون الإلمام بجوانب الفتوي وعواقبها.. ولأنهم يحسبون أنفسهم قد ملكوا ناصية الكلام واللغة, فهم لا يخشون هجوم أحد عليهم أو اعتراض معترض; لأنهم يعلمون أن وظيفتهم هي مخاطبة الناس وإقناعهم بشتي الطرق والوسائل.. وللأسف هناك كثير من الناس في مدن وقري ونجوع مصر يستمعون إلي هؤلاء ويصدقون كلامهم, لأن الناس يحسبونهم ويظنونهم علي علم وتقوي.. والسؤال: لماذا لا تكون الفتوي من دار الإفتاء المصرية التابعة للأزهر الشريف فقط دون قنوات الظلام؟ والأزهر الشريف هو المؤسسة الدينية التي ظلت منذ نشأتها تحمل لواء الإسلام, وتنشره في ربوع الأرض. أعتقد أن هذا سوف يحمي مجتمعنا من أن يسير إلي الخلف وينتشله من ظلمة الجهل.. ولا أزال أذكر ذلك المشهد في نهاية مسرحية أهلا يا بكوات عندما وجدنا نجمي المسرح حسين فهمي وعزت العلايلي وهما يخرجان من عصر البكوات إلي العصر الحديث, وفي الوقت نفسه نجد أحد المجاذيب الذي ينادي ويقول: تبرعوا لبناء مسجد ولا للعلم والتعليم... هل نريد أن نفعل ما قامت به طالبان.. عندما قاموا بعمل فجوات داخل تماثيل بوذا ووضعوا بها كميات ضخمة من البارود والمتفجرات بعد أن فشلوا في تدمير التمثالين بالصواريخ والدبابات; ولذلك قاموا بتفجير التماثيل بالمفرقعات لكي تصبح شهادة ضد الإسلام والعالم الإسلامي وقد أسهمت بصورة كبيرة في تشويه صورة المسلمين.. وكان رد الفعل متطرف أيضا من أصحاب الديانات الأخري سواء السماوية أو غيرها مثل البوذية في الهند عندما حاولوا حرق المصحف الشريف انتقاما من المسلمين..! إن تحطيم التماثيل يعتبر جريمة ضد البشرية وضد الحضارة ومثال للتخلف بعيدا عن القيم; لأن هذه التماثيل عبارة عن تحف فنية وليست رمزا للعبادة وليست أوثانا يتعبد لها الناس, فلذلك لم يقم المسلمون الأوائل عندما فتحوا مصر بتحطيم آثارها, ومن ضمنها التماثيل والمناظر المصورة علي جدران المقابر والمعابد, بل اعتبروها آثار حضارة عظيمة كانت قائمة يوم ما دعانا المولي عز وجل إلي الحفاظ عليها واتخاذ العظة والعبرة, وليس هناك نص قرآني أو حديث نبوي يدعو إلي تحطيم الآثار ونضع تحت كلمة الآثار مائة خط.. هذا لم يحدث في صدر الإسلام وعصر الصحابة الذي ما وجدنا منه إلا كل تصرف نبيل وحضاري يعكس الوجه الحقيقي للإسلام.. ولذلك انتشر في ربوع الأرض ودخل الملايين الإسلام, لأنهم ما وجدوا فيه إلا كل خير وسماحة ورحمة.. فيا دعاة الغلظة والتحطيم والتهشيم والمسخ اتقوا الله في الإسلام وفي مجتمعكم! كان المؤرخون العرب القدامي هم أول من اهتموا بالآثار والحضارات القديمة التي وجدوها في مصر, وكان من بينهم الرحالة الطبيب والمهندس والمفكر ووضعوا كتبا في وصف آثار مصر وعجائبها, ولأن الحضارة المصرية القديمة كانت كتاب مغلق علي أسراره حاولوا وضع التفسيرات والقصص والمعجزات التي تخيلوا وجودها من خلال عظمة وشموخ هذه الآثار.. والغريب أن كتابات الرحالة والمؤرخين العرب الأوائل هي التي اعتمد عليها أصحاب الأساطير من جماعات الغرب عن الأهرامات وكنوز الحضارة المصرية القديمة وبنوا نظرياتهم غير الواقعية علي ما سمعوه وقرأوه في كتب الرحالة الأوائل.. وأصبح لهذه الجماعات أسماء مختلفة وطقوس مختلفة في أثناء زياراتهم الآثار الفرعونية.. ويبدو أن قيام أحد المتشددين بمحاولة تحطيم تمثال كان يعتبر حدثا فريدا يستحق أن يروي ويسجل في كتب التاريخ.. لذلك وجدنا المقريزي وغيره يسيقون لنا قصة هذا المتعبد المتزمت الذي أراد هدم تمثال أبو الهول ظنا منه أنه لصنم, ولم يثنه عن ذلك سوي ريح عاتية جعلت الناس من ضعاف النفوس يحسبونها من كرامات أبو الهول, وبعد أن كانوا لا يتلفتون إليه أصبحوا يبركون به, والسبب الشيخ محمد صائم الدهر!.. وجدت خلال السنوات القليلة الماضية مدي حب المصريين للآثار المصرية واهتمام رجل الشارع العادي بالآثار, وهناك شباب يسألني دائما عما وصلنا إليه من اكتشافات تخص عائلة الملك توت عنخ آمون, وكذلك اكتشافات الهرم الأكبر والأبواب السرية, ومتي سيقوم الإنسان الآلي برحلة أخري داخل ممرات التهوية للكشف عما هو خلف الأبواب التي اكتشفناها في السنوات الماضية؟.. كل هذه مؤشرات طيبة تدعونا إلي المزيد من العمل لبناء جسور تواصل بين أبنائنا وتاريخهم العريق, ويأتي أصحاب الجهل ليهدموا هذه الجسور من أساسها.. وأنا لا أعرف بالضبط من هو المستفيد؟ وهل المشكلة التي نعاني منها في مجتمعنا هي أننا لم نحطم بعد آثارنا؟ فلماذا هذه الحملة الشعواء علي تراثنا الفرعوني؟.. لقد استطاع البعض من قبل أن يفسر خطأ فتوي الدكتور علي جمعة وهي فتوي قديمة للأزهر الشريف تخص صناعة التماثيل, وقد أعلن الدكتور جمعة في كل مكان أن التماثيل التي يتعبد لها الناس ويعتقدون في نفعها وضرها, هي حرام وواجب محوها. أما ما ترك من تراث حضاري, وما ينفع العلم والفن أو حتي للعب الأطفال للا ضرر منه ولا يجوز القول بتحريمه; لأن المولي عز وجل دعانا إلي أن نمشي في الأرض وننظر ونعتبر من آثار الأولين, وليس هناك في القرآن الكريم أو السنة ما يدعو إلي هدم وتشويه الآثار.. ماذا نفعل نحن المسلمين إزاء ما صرح به أحد الشيوخ بإباحة البحث عن الآثار في المنازل والأراضي المملوكة للأفراد, وحقهم في التصرف فيما يعثرون عليه.. وقال في إحدي القنوات الدينية إن كانت هذه الآثار في أرض تملكها أو في بيت لك فهذا حقك ورزق ساقه الله ولا إثم عليك في ذلك ولا حرج, وليس من حق دولة ولا مجلس ولا أي أحد أن يسلبك هذا الحق, وهذا الرزق الذي رزقك الله إياه هذا ركاز أو كنز أو ذهب أو غير ذلك فهذا حقك إن كان في ملكك..!.. ويقال إن الشيخ تراجع عن مسألة تحطيم وجوه التماثيل وعن هذه الفتوي بعد أن انتشرت في كل مكان.. وهناك العديد من المثقفين الذين استنكروا هذا الكلام.. لا يعرف الشيخ أن مصر الحديثة قد بنيت فوق مصر القديمة, وأن هناك مدن كاملة موجودة أسفل الأرض.. وهناك حوادث عديدة حدثت في طول البلاد وعرضها أودت بحياة هؤلاء الباحثين عن الآثار أسفل بيوتهم وأراضيهم.. وانتشرت أساليب النصب باستخدام أخبار كنوز وهمية وإرسال الرسائل عبر أجهزة المحمول وغيرها. لماذا لم يضع الشيخ في حسابه ما يمكن أن يخسره التاريخ جراء فتواه.. فالآثار هي التي تكتب التاريخ وضياعها هو ضياع لتاريخ البلد.. إنني أعتبر ما حدث جريمة في حق الإنسانية وفي حق التراث المصري بسبب اعتقاد خاطئ غير قائم علي أساس ديني أو علمي; لأن هذه الآثار ملك لمصر وليست ملك لشخص بعينه, بل هي ملك الإنسانية كلها..