تتابعت علي الساحة الإعلامية في مصر خلال الأسابيع الأخيرة أحداث وقرارات وتحذيرات صدرت عن مؤسسات إعلامية وهندسية وقضائية.. مؤسسات حكومية وأخري خاصة, وأثارت هذه الأحداث والقرارات ردود افعال وتفسيرات متباينة في الداخل والخارج, وتتابعت في فترة زمنية محدودة فبدت وكأنها متزامنة ومقصودة, ثم إنها جاءت قبيل إجراء الانتخابات التشريعية لمجلس الشعب وهي انتخابات تحيطها فصائل المعارضة عادة بالكثير من الشكاوي التي أصبحت عرفا سياسيا لدي المعارضة في مصر تحفظ بها ماء وجهها حين تكشف الانتخابات عن الوزن الحقيقي للقوي السياسية في مصر. وجاءت أهم الأحداث التي تتابعت علي الساحة الإعلامية المصرية أخيرا من مصدرين: الأول وهو مؤسسة مملوكة ملكية خاصة شهدت صداما بين مالكها الجديد ورئيس تحرير الصحيفة التي تملكها وانتهت بإقالة رئيس التحرير, وهي قضية تخص أطرافها وحقوق كل طرف منها برغم أن البعض أيضا قاده فكر المؤامرة إلي ربط القضية بالانتخابات القادمة وهو أمر يثير السخرية. أما المصدر الثاني لأهم تلك الأحداث فقد كان شركة( نايل سات) وهي إحدي الشركات التابعة لوزارة الإعلام حين قررت وقف اثنتي عشرة قناة تليفزيونية وقفا مؤقتا وإنذار عشرين قناة أخري تري أنها أخلت بشروط التعاقد والغرض المرخص لها به. وحول هذين الحدثين الرئيسيين كانت هناك أحداث وقرارات أخري منها قرار الجهاز القومي للاتصالات بفرض ضوابط جديدة للرقابة علي خدمة رسائل الهاتف المحمول الدعائية والإخبارية, ومن قبلها قرار قضائي بمنع تصوير المحاكمات القضائية في ساحات المحاكم ووقف بث قناة أوربت التي تقاعست عن دفع مستحقات مالية عليها. هذه الأحداث خضعت بسبب التوقيت والفواصل الزمنية القصيرة بينها لتفسير مجمع بدلا من النظر إلي مبررات واسباب كل قرار وكل حدث علي حدة, ومن الواضح أن الانتخابات التشريعية المقررة الشهر المقبل كانت تمثل الخلفية العامة لهذا التفسير المجمع, بل إنها استخدمت بكثافة في الربط التعسفي بين أحداث ليس بينها رابط, فقد خضع كل قرار وكل حدث للمزايدات وتم ربطه بالانتخابات بصرف النظر عما إذا كان قد صدر عن مسئول حكومي أو رجل إعمال.. عن سلطة قضائية أو عن سلطة هندسية, وبصرف النظر عما إذا كانت الأسباب وراء كل قرار هي أسباب مستحدثة أو قديمة. والذي يجمع بين ردود الفعل حول ما يحدث علي الساحة الإعلامية المصرية الآن ومنذ سنوات هو البكاء الفوري الصاخب علي حرية الصحافة لمجرد تصريح أو تعليق لمسئول حكومي يطالب بترشيد الممارسات الإعلامية لحماية مصالح الوطن ولحماية حرية الصحافة ذاتها من المتربصين بها. ويغفل البكاءون علي الفور ما قدمته مصر من دعم لحرية الصحافة.. ويتناسي هؤلاء الذي قدمه الرئيس حسني مبارك للصحافة وأقلامها ووسائل الإعلام ورجالها. وكيف انتصر لها مرات ومرات في وجه المتربصين بها. وتحمل في سبيل أن تستمر مسيرة الصحافة حرة الكثير من الكتابات التي تفتقر إلي اقل القليل من أدب الحوار والنقد. لا أحد من البكائين علي الحرية تحدث يوما عن المسئولية التي تفرضها الحرية علي من يمارسها. فليس في التاريخ كله حرية بلا سقف أو حرية بلا حدود أو حرية بلا مسئولية. فالمسئولية هي التي تجعل للحرية قيمة عليا تستحق التضحيات, والمسئولية ليست من القيود علي الحرية ولكنها القوة التي تدفع بها نحو مصالح الجميع.. الفرد والمجتمع, ومسئولية الحرية تتطلب وعيا وإدراكا ونضجا حتي لاتقيد المسئولية حدود الحرية ولاتنحرف الحرية عن مسارها فتضر بدلا من أن تنفع. ............................................................ منذ سنوات ورجال القضاء يشكون عواقب التغطية التليفزيونية المفصلة للمحاكمات, ويستنكرون تأثير المحاكمات التليفزيونية الليلية علي عدالة نظر القضايا ولكن أحدا لم يستجب, استمرت القنوات التليفزيونية في محاكماتها وإصدار أحكامها ومخالفة الأعراف القضائية بالتعليق علي أحكام القضاء حتي إذا صدر قرار وقف تصوير تلك المحاكمات وبثها, وهذا حق أصيل للقضاء, راح البعض يضع ذلك الأمر في خانة التضييق علي الإعلام وحريته, ويتباكي علي الحرية التي اضاعها قرار القضاء. وبعيدا عن الروابط الواهية بين الانتخابات والأحداث الأخيرة التي تسكن عقول البعض, فإن كثيرا من الإجراءات التي تلزم ضبط الأداء الإعلامي قد تأخر طويلا.. وهذا التأخير هو الذي زاد من غضب البعض علي قرارات وزارة الإعلام بوقف قنوات وإنذار أخري. فلقد اعتاد الجميع الفوضي واصبحت السلوكيات المعيبة والمرفوضة هي المعايير المهنية لكثير من الفضائيات التي تملأ الأثير من حولنا, وفهم البعض الصبر علي ممارساتهم عجزا فتمادوا إلي حد الإضرار بالأفراد والمجتمعات علي السواء وتعريض أمن الجميع للأخطار. وفي سبيل أن يستمر هؤلاء في التربح علي حساب البسطاء أو نشر أفكارهم المتطرفة وزرع الفتنة بين أبناء المجتمع الواحد, يري البكاءون علي حرية الإعلام ضرورة أن تتخلي شركة( نايل سات) عن مسئولياتها الاجتماعية تجاه المشاهدين في مصر وفي غيرها وتترك الحبل لهؤلاء علي الغارب يفعلون بالناس ما يريدون ما دامت في النهاية تتقاضي منهم حقوقها المادية. الأمر يتجاوز كثيرا التفسيرات الساذجة التي يسوقها البعض. فالانتخابات ليست مبررا لإغلاق قنوات اعتادت نشر الشعوذة والتفكير الغيبي وإغراق الناس في أوهام تحول دون تنمية قدراتهم وأفكارهم بما يخدم مصالح أمتهم, وليست للانتخابات علاقة بقنوات لم تلتزم بالغرض الذي من اجله أنشئت. وليس من اجل الانتخابات تم تحذير قنوات بوقف الإعلانات التي تبيع الوهم وتخدع البسطاء من الناس. وليس من أجلها تم وقف قنوات وتحذير أخري اعتادت نشر الأفكار المتطرفة والحض علي كراهية الآخر والدعوة إلي التشدد. وايضا ليس من اجلها أوقفت قنوات أهدرت القيمة الإنسانية لعلاقة رفيعة سامية فحولتها إلي تجارة رخيصة, فلقد وصل الأمر بالكثير من الفضائيات العربية إلي اسفل مستويات العمل الإعلامي وتصاعدت الشكاوي من الإسفاف الذي تقتحم به بيوت الناس ومجالسهم. لم تعد الأخطار علي أمن مصر وسلامتها خافية علي أحد في ظل ممارسات بعض القنوات الفضائية ومعالجتها بعض الأحداث في مصر خاصة ما يتعلق منها بالعلاقة بين عنصري الأمة المسلمين والأقباط.. ولسنا مطالبين بأن نأخذ تلك القنوات بسوء النية أو حسنها ولكننا مطالبون بمنع كل قول يثير الفتنة وحظر كل ادعاء وكذب يوقع العداوة بين المصريين. سنوات وأحداث صغيرة تلقي من بعض الفضائيات تضخيما وتفسيرا يثير الكراهية, ويبعث فتنة لاتقوم علي أساس, ولاينبغي بعد اليوم التسامح مع هذه الأبواق التي تعرض أمننا للخطر, فلقد كادت تلك الفضائيات تبعث الفتنة والنزاع بيننا وتحيل الحياة الآمنة في بلادنا إلي جحيم بأقوال غير مسئولة وتحت شعار الحرية. والحقيقة اننا فوجئنا بتأثيرات الفضائيات وممارساتها ولم نكن مستعدين لذلك. ففي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي وحينما أصبح البث الفضائي المباشر حقيقة كان لدي العرب جميعا الكثير من المخاوف من أن تؤدي القنوات الفضائية الوافدة إلي تلوث ثقافي وغزو فكري وعدوان علي خصوصيتنا الثقافية.. وكنا نظن دوما أن الخطر علينا مصدره الآخرون, ولم يعتقد أحد منا آنذاك أن الخطر علينا سوف تأتي به فضائيات عربية مملوكة لنا وليس لغيرنا. ............................................................ لقد جاءت الفضائيات العربية بأخطار أضعاف ما جاءت به القنوات الأجنبية, وأصبح الفضاء من حولنا بتلك القنوات ساحة للاحتراب الفكري والعقائدي والثقافي بكل ما ينطوي عليه ذلك من خطر حقيقي علي أمن وسلامة المجتمعات. لقد صار خطر تلك القنوات ماثلا أمام الجميع ولم يعد هناك من ينكر حقيقة الذي تفعله الفضائيات بالمشاهدين كبارا وصغارا. واصبح الفضاء من حولنا يعاني الكثير من الفوضي بمئات القنوات التي لا يعرف أحد لماذا ظهرت, أو كيف ظهرت, ومن يمولها ومن يقف وراءها؟. منذ اقل من عامين كان وزراء الإعلام العرب قد آثاروا مسألة ضوابط الممارسة الإعلامية للفضائيات, ووقتها ثارت ثائرة الكثيرين واعتبروا ذلك عدوانا علي حرية الإعلام, وطوي النسيان محاولة وزراء الإعلام العرب ضبط ممارسات التليفزيون الفضائي من حولنا, وكان ذلك دافعا قويا لتلك الفضائيات علي أن تزيد عدوانها علي حق المشاهد في برامج تليفزيونية جيدة وبناءة.. زادت من الجنس والتجارة والشطارة والفتنة والتطرف والتشدد, فلم تعد هناك أصوات تعارض. الحقيقة أن القرارالذي اقدمت عليه شركة( نايل سات) أمر يستحق التقدير ونعتب عليه التأخر في إصداره حتي أغري سفهاء الفضائيات أن يفعلوا بالناس ما يريدون. ........................................................... والفوضي التي امتلأ بها الفضاء من حولنا كانت مصير خدمات بث الرسائل الإخبارية ايضا.. وحينما يأتي قرار الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لإعادة النظام, فإن قراره يحظي بتأويلات تذهب به بعيدا عن مغزاه ومقصده.. الأمر ليس حرية أو لا حرية.. الأمر هو نظام أو لا نظام, فليس هناك مجتمع يمكن أن يضحي بأمنه وسلامته لمصلحة حرية فئة من الناس. والحرية التي سعي الإنسان من اجلها عبر القرون لايمكن أن تنتهي به إلي الاحتراب والفتن والانقسام. هناك ضوابط جديدة لاتمنع حرية تبادل الرسائل النصية ولكنها تمنع استخدامها بشكل يلحق الضرر بالمجتمع, ففي مجال الفتوي اصبحت رسائل المحمول تحمل آلاف الفتاوي التي لايعلم أحد مصدرها ولانعرف إن كان اصحابها مؤهلين لذلك أم غير مؤهلين؟ وحينما يطلب إلي الجهات التي تتولي توزيع تلك الفتاوي الرجوع إلي مرجعية دينية مؤهلة, فإن ذلك ليس عدوانا علي حرية التعبير, وإنما هو حفاظ علي حق المواطن في أن يتلقي معلومات صحيحة تكفل صحة أفعاله واقواله التي سوف تبني علي هذه المعلومات. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالأخبار وغيرها من المعلومات, ولايمكن أن تكون التكنولوجيا الجديدة مجالا لنشرالاكاذيب والافتراءات والمعلومات المضللة. ولاعلاقة للأمر بقضايا سياسية أو غيرها.. هذا تنظيم نعترف بأنه تأخر ولكنه جاء ليضع حدا لفوضي شكونا منها طويلا. ليست الحرية في بلادنا منحة من احد يمنعها وقتما يشاء. ولكن مصالح الأمة ومواطنيها مرهونة ايضا بمسئولين يتعين عليهم التحرك حين تتجاوز الحرية حدود المصلحة إلي إلحاق الضرر بالجميع.. وما حدث في مصر كان نوعا من التنظيم لفوضي تمثل خطرا.. ولاتزال الحرية في بلادنا علي حالها الذي عرفناه لم ولن تتأثر, ولكن الذين خسروا الأرباح وحبطت أعمالهم في النيل من هذا الشعب هم الذين يبكون اليوم خسارتهم ويندبون الحرية التي مكنتهم من الإضرار والتربح.