أكتب اليكم وقد منحت نفسي بكل عشم الحق في أن أنصبها ممثلة للملايين من أطفال الوطن العربي سابقا لأرثي الفنان الكبير صلاح السقا الذي أدين وندين له بلحظات لا نهاية لها من المتعة البريئة الممتزجة بالدهشة وبواكير الفكر. وكيف لا أدين له أنا والملايين من أبناء جيلي وأجيال سابقة لنا ولاحقة أيضا في مصر والوطن العربي بمتعتنا الرئيسية نحن جيل ما قبل التليفزيون الملون والبلاي ستيشن والانترنت, وقد تسمرنا أمام شاشة التليفزيون الابيض والأسود لكي نتابع مشدوهين كيف يروي لنا حكايا مجسدة/ مجسمة عبر كائنات خشبية سحرية تصدر أصواتا آدمية تشبه أصوات نجومنا المحبين وتحرك أطرافها الطويلة وتدير رأسها وتفتح أفواهها وترقص وتغني وتخلب ألبابنا. في السبعينيات يحملنا مترو عبدالعزيز فهمي من ضاحية مصر الجديدة عبر العاصمة حتي يقترب بنا من نهاية الخط, فأكاد أري النيل العظيم, يمتد أمامنا الأفق لم تخترقه البنايات العملاقة القبيحة بعد, لا يشغلني عن النيل سوي الاعلان الكبير عن عرض جديد بمسرح العرائس.. فرصة متجددة للبهجة: الشاطر حسن, وصحصح لما ينجح, وعقلة الأصبع, وغيرها. تتعلق عيناي برسوم العرائس الضخمة المعلقة في الهواء, الملابس التاريخية, الحيوانات الطريفة, تتناثر حولها كلمات بأحرف عربية أكاد لا أتبينها, يوما ما سأقرأها وسأفهم. هي في ذلك اليوم البعيد رموز للبهجة لي ولجيلي من الاطفال. متعة اندثرت معنا, مثلما اندثرنا نحن جيل الاطفال السابقين بين الكتب, وأوراق الجرائد المصفرة, وشاشات الحاسوب, حتي رحل عنا صلاح السقا فتذكرنا ما كان وتبدي أمام أعيننا سحر مستعاد وبهجة عائدة. حول صلاح السقا خشبة مسرح خالية إلي مولد وسوق وساحة مسجد وقهوة شعبية ومدرسة وصالة في بيت أسرة من الطبقة المتوسطة, فتوالدت ملايين الومضات البهيجة. كيف نجح صلاح السقا وقتئذ أن يكتسب ثقتنا ويثري براءتنا بما يرينا من تلك الامكانات المدهشة التي تخفيها الدمي داخل أجساها الخشبية المكسوة بالقماش؟ بل نعود إلي البدايات لنسأل: كيف تحول من المحاماة إلي فن العرائس الساحر؟ ومن قاعة المحكمة إلي خشبة المسرح؟ ولماذا فضل هذا الفنان الرائد ظلام الكواليس علي نور قاعة المحكمة؟ وماهي تفاصيل ليلة العرض التي كانت الميلاد الحقيقي لمسرح العرائس عندما فوجئ بجمال عبدالناصر وثروت عكاشة أمامه بين الجمهور؟ وأخيرا.. كيف جسد صلاح السقا نص الليلة الكبيرة الفذ لعمنا صلاح جاهين؟ كلها أسئلة كنا نتمني أن نطرحها عليه لنستمع بأنفسنا إلي اجاباته التي تضيف إلي رصيده الفني والانساني كمواطن عربي مصري مسئول ومهموم بنهضة الوطن, يستثمر مشاعر أبوته البيولوجية لابنه أحمد وابنته فاطمة مستمدا منها مشاعر الابوة الروحية التي امتدت إلي ملايين الاطفال المصريين والعرب الذين تربوا هم أيضا مثلهم مثل أحمد وفاطمة في حضنه دون ان يعلموا تلك الحقيقة الجميلة الساحرة. أري في صلاح السقا جيلا نابغا يجتمع لإنهاض وطن حر وسعيد, يشيد أهرامات وسدودا, عالية وأبراجا وأعمدة للثقافة في مصر جديدة تعي وتستوعب مسئولية ريادتها وثقل شموخها, وترعي الفنون جمعاء, دون تمييز لفن دون آخر, فكل الفنون مقدسة وكلها من الشعب وللشعب وبالشعب, السهراية والسامر والتحطيب والبمبوطية.. ومسرح العرائس وغيرها. لابد أن تخرج لنا يوما ما إلي النور حكاية صلاح السقا, انضم الشاب العشريني ذو السبع والعشرين عاما إلي دورة في فن تحريك العرائس علي يد الفنان الروسي ذائع الصيت سيرجي أوزاروف الذي يطلق عليه الأب الروحي لفناني العرائس في العالم, وانطلق صلاح السقا بعد هذه الدورة إلي دورات أخري وإلي تعلم فن العرائس في رومانيا ليصبح بدوره الاب الروحي لفن العرائس في مصر والوطن العربي وبفضله أصبح للطفل المصري والعربي مسرح سحري بالازبكية تتجسد علي خشبته كل ليلة أعجب الحكايا التي يرتبط فيها اسمه بعباقرة مصريين مثله وعلي رأسهم صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وسيد مكاوي. ومثل فنان المسرح الكبير زكي طليمات امتد تأثير صلاح السقا ودوره الرائد متمثلا في بصماته علي فن العرائس في دول شقيقة من بينها العراق, وقطر,والكويت, وسوريا, والسودان, وتونس, فأصبح له مريدون شهود عيان علي فنه الصادق, وتلاميذ في مدرسة البهجة لناظرها ومالكها ومؤسسها الفنان محمد صلاح الدين السقا, تعلموا علي يديه فن الفنون جمعاء مزجه بين الفن المسرحي وتحريك الدمي وتشخيصها, في تحويله الشعبيات النصية البديعة, إلي جداريات متحركة بهيجة في مقدمتها فريدة مسرح العرائس العربي الليلة الكبيرة. أما التجريب وشجاعة التعبير الفني في رائعة صلاح جاهين صحصح لما ينجح فقد تجاوزت قيود المنطق إلي أقصي مساحات التعبير البشري, وأعطني عقلك أيها الطفل, فكيف بالله عليك لاتنبهر عندما يقتحم بك صلاح السقا في أوائل الستينيات من القرن الماضي عالم الميتامسرح أي المسرح داخل المسرح ويدعوك البطل صحصح إلي عالمه فيقدم لك السرير والمكتب والشباك وبابا وماما, وتمتزج عناصر المسرحي بالحلم وتطفو مفردات العرض, وتري الشوكة والشمس والساعة والجزمة وعلامات الحساب والجمل وحنك السبع وأبا الهول يتحولون إلي شخوص تنصب نفسها قاضية وحارسة ومعلمة لصحصح ذلك الطفل الشقي المهرج الذي يلقن درسا لاينساه يتحول بعده إلي مواطن صالح!. ألم تر الشوكة ذات الاسنان اللينة التي تهتز كخصلات شعر متموجة؟ ألم ترتعد من صوت الساعة التي تقطب عقربيها وهي تواجه صحصح بجهله؟ ألم تقف زنهارا لصوت الجرس تيكيلم.. ياللاقوام!؟ الغريب أنني لم أر صورة هذا الاب صاحب الافضال إلا بعد وفاته, وجه أب مصري تتخيله بتلقائية فورية في طريقه إلي بيته مرتديا جلبابه الناصع, عائدا من المسجد بعد صلاة الجمعة يحمل بعض الفاكهة يدور حوله طفل نحيل, هو في الغالب أحمد يجري خلف كلب ضال, يبسبس لهرة جائعة, يتبعها فيبتعد قليلا عن الأب, ويكاد يقترب من حافة الرصيف, فيخاف عليه الاب الحاج صلاح ويناديه ليعود أحمد ويتشبث بكف والده الكبير, هو نفس الكف الذي يخطط لسيناريو العرض وخطة الاضاءة وحركة العرائس ويقف في الكواليس ممسكا بخيوط دمية ليعلم فنان عرائس شابا كيف لمسة من أصابعه تترجم وتحول حركة جسدها من انثناءة راقصة شرقية إلي استقامة الشاويش!. رحم الله أبانا الفنان صلاح السقا.. صانع البهجة الذي لانملك سوي أن نبتسم وفاء لذكراه واعترافا بفنه وتقديرا لأبوته ونترحم عليه بل وعلينا كذلك!. أستاذ الدراما جامعة عين شمس