علاقتي بموضوع الجماعة الوطنية المصرية والعلاقات بين المسلمين والأقباط بداخلها تعود إلي سنوات طويلة. وترتكز هذه العلاقة علي الخبرة الشخصية لي كشاب في حقبة الستينيات والتي انصهر خلالها معظم المصريين في بوتقة مشروع وطني غالب. كما ترتكز علي قراءات طويلة لتاريخ التكوين الوطني المصري وانسلاخه عن الهوية العثمانية ونشوء وعي وطني مصري علي مدي فترة ما يزيد علي قرن من الزمان, وأفصحت عن خلاصة هذه الخبرة في مساهمات وآراء في عشرات البحوث العلمية والمقالات الصحفية في الأعوام الأربعين الأخيرة. ومع تكرار ما تعودنا علي تسميته بأحداث الفتنة الطائفية, والتي أطلت برأسها القبيح علينا من أحداث الزاوية الحمراء في حقبة السبعينيات من القرن الماضي, يتكرر الحديث في كل مرة عن الوحدة الوطنية, وأنه حدث فردي لا يؤثر علي النسيج الوطني لهذه الوحدة, وأن الإسلام برئ ممن يقومون بهذه الأحداث الإجرامية. وعادة ما تتم زيارات بين رجال الدين الإسلامي والمسيحي, وزيارات من بعض المسئولين لتقديم التعازي, وتدبج مقالات عن ضرورة الفهم الصحيح لمباديء الإسلام والأبتعاد عن الأفكار المتعصبة والشريرة, وينتهي الأمر وينصرف المجتمع والرأي العام إلي موضوعات أخري حتي تقع حادثة أخري فتتكرر نفس الأسطوانة مع بعض التعديلات حسب الظروف والموضوع. وأعتقد أنه آن الأوان لتجاوز هذا المنهج في التعامل مع الموضوع, فعندما يتم اتباع أسلوب أو تبني سياسة لمدة تزيد علي35 سنة ولا تؤتي ثمارها, فلابد من إدراك أن هناك شيئا خطأ, وأن هذا الأسلوب لا يتعامل مع جوهر المشكلة ولا يقدم حلا لها وهذا هو الرأي الذي أعتقد فيه وأطرحه بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض. وأساس الموضوع هو العلاقة بين الانتماء الديني والانتماء الوطني, وبين الجماعة الدينية والجماعة الوطنية, وأسس التعامل بين أبناء الديانات المختلفة في إطار الوطن الواحد. فالإنتماء الديني_ بحكم التعريف_ هو أنتماء عابر للحدود وينطبق ذلك علي الإسلام والمسيحية, فكلاهما يمتد عبر عشرات الدول في كل القارات. وهذا الانتماء الديني له تداعيات عاطفية ونفسية, حيث يشعر المعتقدون بنفس الدين_ علي اختلاف الأوطان_ بمشاعر التعاطف الإنساني والوجداني وهو أمر مشروع ومفهوم. إما الإنتماء الوطني فهو أنتماء أبناء الوطن الواحد المواطنون علي اختلاف دياناهم لوطنهم ولبلادهم, فأبناء الوطن الواحد يتشاركون في أوقات اليسر والعسر, ويتشاركون في تحمل نتائج السياسات التي تتبعها الحكومة, وهم جميعا يخضعون لنفس القانون من حيث الحقوق والتبعات. وهذا هو معني الجماعة الوطنية التي هي أساس بناء مصر الحديثة من عهد محمد علي ومرورا بثورتي1919 و1952 وما تلاها من أحداث حتي وفاة الرئيس عبد الناصر في عام1970, وطوال هذه الفترة كانت المواطنة هي اساس العلاقة بين الدولة والمواطن, وبين المواطنين بعضهم والبعض الآخر. في عهد الرئيس السادات حدث تحول مهم. ففي هذه الفترة وظفت الحكومة قوي سياسية اتشحت برداء الإسلام لضرب خصومها من التيارات السياسية الأخري, وقام النظام بإتاحة الفرصة لتلك القوي السياسية الدينية لدعم نشاطها وتأثيرها بين الشباب. وشهدت الجامعات في النصف الثاني من السبعينيات أنماطا جديدة من السلوك كان من مظاهرها منع الحفلات والغناء ومحاربة الاختلاط وفرض الفصل بين الطلاب والطالبات في مدرجات الدراسة. ورافق ذلك تصاعدا في الوعي الديني الذي دعم منه زيادة دور دول الثروة النفطية وصعود جيل جديد من الدعاة الذين طرحوا أفكارا غريبة عن المصريين تماما نقلوها من الفكر الديني السائد في هذه الدول ذات التاريخ والتكوين الاجتماعي المختلف عن مصر. وانتشرت كتب وشرائط ومواقع إلكترونية وشبكات تليفزيونية تغذي الوعي الديني, وفي مرحلة لاحقة الوعي الطائفي( السنة في مواجهة الشيعة) فالعقلية التفتيتية تبدأ بالتركيز علي الانقسامات بين الديانات ثم تنتقل للتركيز علي الانقسامات في داخل الدين الواحد, ثم تبرز الانقسامات في داخل المذهب الفقهي الواحد, فهي مثل مرض السرطان إذا امتلك جسدا لا يتركه قبل أن يحطمه تماما. وكان كل ذلك علي حساب الوعي الوطني والشعور بالانتماء إلي جماعة وطنية واحدة. وهكذا, فإن جوهر الموضوع هو ضرورة تجاوز الآثار السلبية والمدمرة التي خلفتها سنوات من تغذية الوعي الديني والطائفي بين المصريين. ونقطة البداية هي أن نتفق علي أن الموضوع سياسي في المقام الأول يتعلق بالمناخ الثقافي والسياسي العام والتوجهات الإعلامية والتربوية السائدة. وأن ندرك أنه كلما تم التركيز علي الجماعة الدينية فإن هذا يتضمن بالضرورة' إقصاء' لمجموعة من المصريين خارج إطارها, وأن إدماج كل المصريين يتطلب إحياء تقاليد الجماعة الوطنية.. تقاليد الدين لله والوطن للجميع.. وتقاليد لهم مالنا وعليهم ما علينا, وهي أمور معروفة لكل مشتغل بالعمل العام. ويترتب علي هذا الفهم والإدراك نتيجة مهمة وهي أن المطلوب هو ليس فقط العقاب الرادع للمجرمين الذين جرحوا قلب مصر, ولكن أيضا المواجهة الصريحة والحاسمة لتيارات التحريض وبث الكراهية وازدراء الأديان الأخري وهي تيارات قائمة ونشيطة في المجتمع. ولا أعتقد أننا بحاجة إلي مزيد من التصريحات عن تسامح الإسلام أو عن علاقة المحبة العميقة التي تربط بين المسلمين والأقباط, ولكننا بحاجة إلي تفعيل نصوص القانون أو إصدار تشريعات جديدة إذا تطلب الأمر ذلك تجرم ازدراء الأديان الأخري أو الحض علي كراهية معتنقيها تحت أي مسمي, كما تجرم التمييز بين المواطنين علي أساس الدين. وهذا هو الطريق الوحيد في اعتقادي للفرز بين الملتزمين حقا بمبدأ المواطنة وبين أولئك الذين يتظاهرون بمسايرته علنا, ويضمرون في داخلهم أمورا أخري, فإذا كنا نؤمن جميعا بمبادئ المواطنة والمساواة فما الضير في أن يكون لدينا السياج القانوني الفعال الذي يحميها ويصونها ضد أعمال الأشرار واستهداف الغرباء. وأخيرا, لقد اعتذرت في الأسبوعين الأخيرين عن المشاركة في أغلب البرامج التليفزيونية التي دعيت إليها بحجة أنني عرضت لوجهة نظري في أكثر من مناسبة سابقة, ولا يوجد جديد أضيفه, وأن من يريد تشخيص أسباب الموضوع أو اقتراح الحلول أو اتخاذ قرار بشأنه عليه أن يطلع علي توصيات اللجنة البرلمانية التي رأسها د. جمال العطيفي بعد أحداث الزاوية الحمراء أو علي وثائق وتوصيات المجلس القومي لحقوق الإنسان بهذا الشأن... ثم فضلت أن أكتب هذه السطور شهادة للتاريخ.