التعليم هو البوتقة التي تنصهر فيها ومن خلالها شخصية المتعلم.. فبقدر صلاحية هذه البوتقة يصلح متلقي التعليم. وإذا لم تكن في مستوي الصلاحية لعملية الصهر يكون المتلقي علي نفس القدر من عدم الصلاحية. وتعبيرا الصهر والبوتقة هنا. نعني من خلالهما مدي التأثير المباشر وفي الإطار المادي والمعنوي علي تكوين شخصية المتلقي للعملية التعليمية. ولذا فقد اثبتت كل التجارب التاريخية والدولية المختلفة علي أهمية العملية التعليمية. في إحداث التقدم. وبدون تعليم ناجح وجيد لا أمل في تقدم حقيقي ولا تطور مطلوب. ناهيك عن أن العملية التعليمية هي الأداة الفاعلة والوحيدة في تشكيل الهوية الوطنية في عملية التلاحم الاجتماعي والتوافق النفسي بما يراكم لخلق مجتمع سوي نفسياً واجتماعياً. ولذا قد كان التعليم في مراحل سابقة من أهم العوامل التي شكلت الشخصية المصرية والتي ساهمت في إذكاء الحس الوطني.. وذلك لمساهمة العملية التعليمية في تكوين واظهار ما يسمي بالهوية المصرية تلك الهوية التي تعبر عن الروح المصرية التي شكلت الشخصية الحضارية المصرية عبر تراكم حقبات مصر التاريخية من فرعونية يونانية رومانية قبطية إسلامية. تلك الشخصية الحضارية المصرية والتي استطاعت أن تطوع وتصهر كل الغزاة وجميع الطامعين من مختلف الأصناف وكل الأجناس في إطار تلك الهوية المصرية، ولذا كان تعبير مصر مقبرة الغزاة.. فمصر شخصيتها الحضارية قد مصرت كل الأجناس التي وردت عليها ولم يبق غير مصر بشخصيتها وبحضارتها. وإذا كان التعليم هو الذي يحافظ علي تلك الشخصية المصرية فذلك من خلال الحفاظ والمحافظة علي تأكيد وترسيخ وتجزير تلك الهوية في نفوس المتعلمين.. ولاشك أن المواد الإنسانية من تاريخ وجغرافيا ومواد وطنية هي الفاعل المؤثر في الاستمرار والحفاظ علي تلك الهوية.. وذلك عندما يكون هناك تعليم مصري حقيقي يأخذ بتلك الأساليب والمناهج العلمية العالمية المتقدمة مع الحفاظ علي تأكيد الهوية المصرية وترسيخ الانتماء لهذا الوطن. فهل التعليم الآن بكل ما له وما عليه يمكن أن يقوم بتلك المهمة؟. لاشك أن التعليم الآن قد أصابه من الأمراض العضال ما يجعله غير قادر علي القيام بمثل هذا الدور المهم والهام. وذلك ليس بسبب تدني المخصصات المالية إلي هذا الدرك الأسفل الذي لا يفي بالقيام بتلك العملية الشيء الذي جعل المدرسة والفصل الدراسي مكاناً للحشر لا علاقة له بأي عمل تعليمي. وأيضاً ليس بسبب غياب أي إمكانيات تساعد وتساهم في القيام بتلك الأنشطة التي تساعد وتساهم في اكتشاف المواهب في جميع المجالات للمساهمة في تدريبها واعدادها حتي يكونوا نوابغ مجالهم مستقبلاً. ولا نتحدث هنا عن الحالة الميكانيكية التي احتوت العملية التعليمية برمتها وقد قضت علي أي ديناميكية أو حركة فاعلة علي الاطلاق من خلال تلك الحالة التي لا علاقة لها باثارة الفكر وتشجيع البحث. والأهم هنا قدرة المعلم وامكاناته وإعداده حتي يستطيع القيام بتلك العملية التعليمية ولا نسقط هنا ذلك التأثير الشخصي والمباشر للمعلم علي التلاميذ. فإذا كان المعلم لم يعد وليس له قدرة تؤهله للتعليم فهنا لا نفقد عملية تعليمية حقيقية بل نفقد معها تكوين شخصية سوية تساهم بل ساهمت في تلك الحالة المتردية ثقافياً واجتماعياً والتي نراها الآن في الشارع المصري. فكل هذا شيء والأهم هو تلك الحالة التي أوصلت التعليم لهذا التشرذم والتفتت من خلال تعدد وتنوع التعليم. والتنوع هنا يمكن أن يكون وقد كان سابقاً مساهماً في حالة التطور والرقي للتعليم. وذلك عندما يكون هذا التنوع والتعدد في إطار خطة مركزية تحافظ علي الهوية المصرية وتساهم في ترسيخ الشخصية الحضارية المصرية مع الأخذ بالمناهج المتطورة عالمياً. ولكن في ضوء التأثير الخطير المرصود للتعليم في تكوين شخصية المتعلم من خلال ما يتلقاه من مناهج تعليمية أجنبية بين أمريكي وفرنسي وإنجليزي وغير ذلك كثير. حتي أصبحت سوق التعليم الآن تحتوي كل البضائع ولا سوق الموسكي بالقاهرة. ولاشك فإن أية دولة تنشيء مدرسة أو جامعة فليس هذا لوجه الله أو من أجل مصر.. ولكن الهدف الأول. وهذه هي الطريقة المثلي لخلق ما يسمي بالانبهار التعليمي والثقافي بتلك الدول الشيء الذي يجعل الخريج من تلك المدارس والجامعات مصرياً منتمياً ومرتبطاً تلك الدولة الأخري، ومما يساعد علي تلك الحالة هي حالة الرخاوة المستفزة التي جعلت وزارة التعليم والتعليم العالي ترفعان يديهما عن الاشراف الفعلي والحقيقي علي تلك المؤسسات التعليمية الأجنبية. فهل يتم الحفاظ علي تدريس اللغة العربية بالقدر حتي الموازي للغات الأخري، هل يتم تدريس تاريخ مصر الوطني والسياسي من منظور مصري ووطني وقومي؟ هل هناك أسباب في تلك المؤسسات تجعل الدارس بها يرتبط بمصر الوطن أم ينصهر مع تلك الدولة ومعلميها وهذا هو المطلوب؟ وإلا لماذا تلك البعثات الداخلية المجانية التي تقدمها الجامعة الأمريكية لطلاب لا علاقة لمستواهم المادي والاجتماعي بتلك الجامعة؟ أليس ذلك لادخالهم في تلك البوتقة الأمريكية حتي يصبحوا أمريكان وليس متأمركين وداخل مصر؟ وكيف تعلن السفيرة الأمريكية بالقاهرة عن افتتاح مدارس وليس جامعة للطلاب المصريين العاديين وبالطبع أمريكية والأدهي هو أن السفيرة وبكل بجاحة تقول إن ذلك حتي نخرج أجيالاً من الطلاب المصريين يتواصلون مع أمريكا! وهذا بالطبع يتم بعد تلك السيطرة الثقافية وبالأخص الأمريكية سواء في المأكل أو الملبس أو الفن بشكل عام. فماذا بقي ويبقي للشخصية المصرية وكيف نحافظ علي الهوية المصرية التي هي النواة الأولي والأهم لعملية الانتماء الوطني الذي لا نجده الآن؟ ثقافتنا المصرية وهويتنا الوطنية هما الشيء الباقي لنا في سوق المنافسة العالمية والعولمية. فإذا فقدنا هذه الثقافة وتلك الهوية لم يتبق لنا شيء وهنا يكون الاستعمار الثقافي والاقتصادي طبعاً هو البديل الفعلي علي أرض الواقع للاستعمار الاستيطاني. فهل نصحو حتي لا يضيع الوقت الذي لا يوجد بعده صحو؟ وهل نهتم بالتعليم ليس اهتماماً نظرياً ولكن عملياً حتي يعود ويكون التعليم صمام أمان وعامل محافظة علي هويتنا وثقافتنا وتقدمنا.