الثنائيات هي الدنيا والآخرة.. والمادة والروح.. والعقل والقلب.. وعالم الملك وعالم الملكوت.. وعالم الغيب وعالم الشهادة.. والأمر التكليفي والأمر التكوينى.. وحديثنا في هذا المقال يدور عن علاقة الأمر التكوينى بالأمر التكليفي. إن علاقة الأمر التكويني بالأمر التكليفي تتسم بأنها علاقة كمال الاتصال، ففي الإسلام الذي هو دين الله الخاتم، تشكل الدنيا مزرعة الآخرة، وصلاح الآخرة لا يمكن أن يتم بعيدًا عن الدنيا أو خارجًا عنها، فهما معًا شطرا الحياة في التصور الإسلامي الصحيح، ولذلك ذكرت الدنيا في القرآن الكريم 115 مرة، وفى مقابلها ذكرت الآخرة أيضًا بنفس العدد 115 مرة، هذا التوافق الكمي من المستحيل أن يكون عبثًا أو محض مصادفة، وإنما هو توافق مقصود، يراد منه بالدرجة الأولى أن يرسخ ويستقر في عقل المسلم وفي حسه وضميره أن دوره هنا ورسالته هنا وعلى ضوء إتقانه وصلاحه في أداء رسالته هنا يتحدد مكانه ومكانته هنالك عند الله، ومن ثم فالعلاقة بينهما ليست منفصلة بين طرفين، وإنما هي علاقة مقدمة بنتيجة، فالنتيجة هنا لا تنفصل عن مقدمتها بأي حال من الأحوال، ومدار الأمر في ارتباط النتيجة بمقدماتها أو إن شئت قل: مدار الأمر في ارتباط الغرس بالثمر والزرع بالحصاد يقوم في الإسلام على قاعدة التوحيد الصحيح، والذي بغيره يتبدد الجهد ويفسد الغرس ويضيع الثمر، قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) [الفرقان: 23]. فطلب الآخرة وإرادتها لابد أن يتوفر فيه شرطان هما: أولا: أن يقوم على قاعدة السعي الصحيح. وثانيا: أن يقوم على قاعدة التوحيد الصحيح. ولأن السعي الصحيح لا يتحقق إلا على قاعة التوحيد الصحيح، كان كل سعي يتم بعيدًا عن هذه القاعدة ينتهي في النهاية إلى سراب خادع، وسيدرك صاحبه في لحظات الضيق والحرج أن السراب لم يكن ماء حتى يتجه الظمآن إليه ليروي ظمأه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب) [النور:39]، ومع قاعدة التوحيد الصحيح وعلى أساسها تتحول همسات المسلم وحركاته وسكناته إلى عبادة تزكو بها نفسه وتصلح بها حياته وترتقي بها دنياه وأخراه معا، قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً) [الإسراء: 19]. وهذا هو المنطلق الذي شكل الفهم الصحيح لسلفنا الصالح فانطلقوا في دنياهم يعمرونها بدينهم ويقدمون من خلال حياتهم ما يسعدهم في أخراهم، فغنموا وانتصروا في حياتهم، وسعدوا في آخراهم. ولذلك نقول: إذا كان فقه الأمر التكليفي يساعد على فهم الدين، فإن فقه الأمر التكويني يساعد على فهم الدنيا. وإذا كان فقه الأمر التكليفي يوضح دور المسلم تجاه الفرائض الدينية، فإن فقه الأمر التكويني يوضح دور المسلم تجاه الفرائض الدنيوية. وإذا كان فقه الأمر التكليفي يشكل سورًا واحدًا للحكم الشرعي، فإن فقه الأمر التكويني يشكل مفتاح الأسرار في سنن الله الكونية. وفقه الأمر التكويني هنا يعني البراعة والاقتدار في علوم الكون وعلوم الحياة، ولقد أفتى العلماء باتفاق أن إجادة الحرف والصناعات التي لا يقوم المجتمع إلا بها ولا تصلح حياة الناس إلا عليها فريضة دينية، وعلى المتخصصين في هذه الشئون أن يبرعوا فيها، وأن إتقانهم لها وبراعتهم فيها واجب كالصلاة والصيام والحج، وأن ذلك يحسب من قبيل الإحسان الذي دعا الإسلام إليه واعتبره أعلى مقامات التقوى، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة يمكن الرجوع إليها في مظانها في غير هذا البحث، لكن الذي يعنينا هنا هو علاقة الأمر التكليفي والأمر التكويني ودور العقل في كلا الأمرين معًا، ومن ثم فلابد من الحديث عن فقه الحياة باعتباره مظهرًا وعنوانًا لفقه الأمر التكويني. رئيس مجلس إدارة المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية رئيس إذاعة القرآن الكريم بسيدني