لا تكشف محاضر جلسات الحوار بين فتح وحماس حول ورقة المصالحة الوطنية التي أعدتها مصر عن أي ملاحظات جادة من جانب حماس حول بنود المصالحة التي استمدت مصر كل عناصرها من واقع الحوارات التي دارت بين كل الفصائل الفلسطينية. باستثناء مطلب حماس تأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية التي كانت ورقة المصالحة قد حددت لها موعدا نهائيا يوم22 يناير من عام2010, ستة أشهر حتي تتمكن حماس من تهيئة نفسها لهذه الانتخابات, وهو المطلب الذي حمله إلي القاهرة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس في زيارته الأخيرة لمصر يوم28 سبتمبر لمراجعة أخيرة لورقة المصالحة في صورتها النهائية أشاع خلالها مناخا من التفاؤل, خاصة في مؤتمره الصحفي الذي دعا فيه إلي الإسراع في إنجاز المصالحة الوطنية, وإنجاح جهود مصر, مؤكدا أن حماس تمد يدها وتفتح قلبها لأشقائها في فتح كي يطوي الجميع صفحة الماضي, ويبدأوا صفحة جديدة ينبغي ألا تتأخر عن ذلك. لكن كلمات خالد مشعل ذهبت مع الريح بعد أيام قليلة, في غمرة الأزمة التي افتعلتها حماس حول قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس تأجيل مناقشة تقرير القاضي جولدستون حول العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة أمام مجلس الأمن, وجعلت منها حماس الشماعة التي بررت رفضها توقيع الاتفاق, والآن تدعي حماس أنها رفضت توقيع ورقة المصالحة, لأن المصريين أضافوا بعض العبارات التي لم تكن موضع اتفاق فتح وحماس في حواراتهما التي تواصلت علي امتداد أربعة أشهر في القاهرة, واستبدلوا شرط التوافق لصحة بعض قرارات الرئيس الفلسطيني محمود عباس المتعلقة بتشكيل لجنة الإشراف علي الانتخابات الرئاسية والتشريعية بشرط التشاور المسبق, علي حين تؤكد فتح في تقريرها العلني إلي اللجنة المركزية, أن الورقة المصرية في مجملها هي حصيلة ما اتفقت عليه القوي الفلسطينية في حواراتها في القاهرة, وأن ملاحظات حماس لم تكن أكثر من تعللات فارغة كاذبة, لأن حماس لم تكن تريد توقيع اتفاق المصالحة, لأن توقيع اتفاق المصالحة يعني أن ترفع حماس سلطتها المنفردة عن غزة, وتنهي الوضع الانفصالي في القطاع, وتتحقق وحدة الموقف الفلسطيني, ويعني أن تفتح جميع المعابر علي مدي الساعة, بما في ذلك معبر رفح, والمعابر الإسرائيلية الستة, وتبدأ عملية إعادة تعمير القطاع, كما يعني أن يعود الجميع إلي الشعب الفلسطيني في انتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة تحددت مواعيدها, تجري تحت رقابة دولية تنظم تداول السلطة الفلسطينية علي أسس ديمقراطية صحيحة. لكن حماس التي تعرف جيدا أنها لا تحظي الآن بمساندة قوية من الشعب الفلسطيني لانعدام مقاومتها خلال العدوان علي غزة, ولأنها تحكم القطاع بالحديد والنار, تكمم كل الأفواه, وتطارد كل معارض, وتطلق الرصاص علي سيقان المتظاهرين, لا تريد هذه الانتخابات, وربما كان يدخل في حساباتها محاولة تأجيل الانتخابات بعض الوقت إلي أن تنتهي صفقة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط, ويرضخ الإسرائيليون لمطالبها, ويتم الإفراج عن قائمة المعتقلين في السجون الإسرائيلية بما يزيد من شعبيتها بعض الشيء, لكن شيئا من ذلك لم يتحقق. الأمر المؤكد أن حماس لا تريد توقيع اتفاق المصالحة, لأنها تفضل الاحتفاظ بسلطتها المنفردة علي القطاع, وتسعي إلي ترسيخ هذه السلطة مستخدمة كل أساليب القهر, علي أمل أن تتمكن يوما ما من مد سلطتها إلي الضفة, أو تقع المعجزة وتقبل مصر اضطرارا الاعتراف بها حارسة علي البوابة الفلسطينية في رفح, بديلا عن السلطة الوطنية, ويصبح للفلسطينيين دولتان وحكومتان: دولة دينية في غزة, وأخري علمانية في رام الله, تتفرغ كل منهما للحرب علي الأخري, بينما يواصل الإسرائيليون فرض الأمر الواقع علي الأرض المحتلة, يزرعون المزيد من المستوطنات في الضفة والقدسالشرقية! وإذا صح برغم أنه غير صحيح بالفعل أن المصريين أضافوا بعض العبارات التي لم تكن موضع اتفاق فتح وحماس, واستبدلوا شرط التوافق بالتشاور للتأكد من صحة بعض قرارات الرئيس الفلسطيني المتعلقة بلجنة الإشراف علي الانتخابات, التي أكدت ورقة المصالحة ضرورة إخضاعها لرقابة عربية ودولية تضمن نزاهتها, فهل يبرر ذلك التغيير الذي أنكرت فتح حدوثه إفساد جهد شاركت فيه كل الفصائل الفلسطينية, استمر علي مدي يقرب من عام في إطار مجموعة من المحددات الواضحة, ألزمت الجميع الإقرار أولا بضرورة إنهاء حالة الانقسام, واستعادة الوحدة الفلسطينية, والتوصل إلي معالجة نهائية يتم التوافق عليها بين كل الأطراف لكل القضايا الرئيسية التي ترتبت علي استيلاء حماس علي قطاع غزة في انقلاب عسكري, شكل أخطر انقسام سياسي وعقائدي وجغرافي في تاريخ القضية الفلسطينية, وأدي إلي نشوب حرب أهلية بين فتح وحماس. أثمر الحوار الذي بدأ في مرحلته الأولي بمشاركة واسعة من كل الفصائل الفلسطينية, انتهت إلي تشكيل خمس لجان عمل رئيسية اتفاقا علي عدد من المبادئ, تصلح لأن تكون إطارا لاتفاق مصالحة وطنية, جري تعميقها علي نحو مفصل في مرحلة ثانية استغرقها حوار ثنائي بين فتح وحماس, تواصل علي مدي ست جولات استغرقت أربعة أشهر, بذلت خلالها مصر جهدا مضنيا وصبرا يفوق طاقة أيوب لتقريب وجهة نظر الجانبين دون أن تحاول فرض وجهة نظرها علي أي من الجانبين إلي أن تمت بلورة مبادئ واضحة ومحددة تصلح لصياغة أخيرة لاتفاق المصالحة. أولها: ترسيخ مكانة منظمة التحرير الفلسطينية, والعمل علي تطويرها وتفعيلها وفق الأسس التي يتم التراضي عليها, بحيث تضم المنظمة جميع القوي والفصائل الفلسطينية مع استكمال تشكيلها كإطار قيادي. ثانيا: اعتماد مبدأ التمثيل النسبي في انتخابات متزامنة تشمل المجلس الوطني والمجلس التشريعي والرئاسة, تجري في جميع مناطق السلطة الوطنية بما فيها القدسالشرقية في25 يناير من عام2010, مع توفير الضمانات اللازمة لنزاهتها من خلال رقابة عربية ودولية. ثالثا: إنشاء حكومة توافق وطني تنتهي ولايتها بانتهاء ولاية المجلس التشريعي تتخلص مهمتها في ثلاث قضايا محددة: الإعداد للانتخابات, وتوحيد الأجهزة الأمنية, وبدء عملية إعادة إعمار غزة. رابعا: تحديد مهام أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية الثلاث: الأمن الوطني, والأمن الداخلي, والمخابرات العامة, علي نحو مفصل يحدد مهام كل جهاز, والتوافق علي ضرورة إعادة بناء وهيكلة هذه الأجهزة في غزة والضفة. وبرغم التقدم الكبير الذي حدث في حوار فتح وحماس بقيت بعض المشكلات العالقة التي لم يستطع الطرفان التوصل لحلول لها برغم الجلسات المطولة, وبرغم مناشدات مصر المتكررة بأن يضع الطرفان المصلحة العليا الفلسطينية أولا, وبرغم الجولات المكوكية التي قام بها الوفد المصري بين رام الله ودمشق وغزة في محاولة لإيجاد حلول وسط تقرب المسافات بين الجانبين. تركزت هذه الخلافات علي عدد من القضايا تتعلق بمشكلة الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين في سجون الطرفين غزةورام الله, وتحديد نسب التمثيل النسبي والفردي في الدورات الانتخابية, وتشكيل اللجنة الأمنية العليا التي أصرت فتح علي أن يرأسها الرئيس محمود عباس, ومدي التزام حكومة الوفاق الوطني بالاتفاقيات السابقة التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية, وبينها اتفاقية أوسلو, وهل تكفي الصيغة التي اقترحتها حماس, التي تنص علي احترام الحكومة لهذه الاتفاقات بديلا عن الصيغة التي أصرت عليها فتح, التي تؤكد ضرورة التزام الحكومة بهذه الاتفاقيات بدلا من مجرد احترامها. وبحيدة وموضوعية كاملة صاغت مصر حلولا وسط لهذه القضايا قبلها الجانبان, بما في ذلك قضية المعتقلين التي اقترحت مصر علي الجانبين ضرورة تسليم جميع قوائم المعتقلين إليها, وأن يتم الإفراج عن المعتقلين من حيث المبدأ قبل توقيع الاتفاق, مع التزام كل منهما بأن يقدم للجانب المصري أسباب امتناعه عن الإفراج عن بعض هؤلاء, في إطار وعد مصري للجانبين بمواصلة الجهد لتسوية هذه المشكلات في أقرب وقت. وكان الظن أن كل المشكلات قد انتهت, وأن المناخ أصبح مهيئا لتوقيع الاتفاق, واستقبلت مصر وفد حماس برئاسة خالد مشعل يوم28 سبتمبر, الذي ناقش مع الوزير عمر سليمان ومساعديه بنود الاتفاق في صورته الأخيرة, وأكد موافقته علي جميع الحلول الوسط التي اقترحتها مصر لإنهاء نقاط الخلاف التي ظلت عالقة حتي اللحظة الأخيرة, وأعلن ترحيبه بتوقيع الاتفاق الذي يصلح لأن يكون أرضية مشتركة لتحقيق المصالح الفلسطينية, وقال: إن الورقة المصرية تطرقت إلي إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية, وترتيبات جيدة للأمن توفر المناخ المناسب لإجراء الانتخابات, التي تمثل الآلية الديمقراطية الصحيحة التي توافقت عليها كل القوي الفلسطينية لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني. وفي ضوء هذا المناخ المتفائل حددت القاهرة يوم19 أكتوبر موعدا لتوقيع الاتفاق, علي أن تجتمع كل الفصائل يوم18 أكتوبر لقراءة أخيرة لمسودة الاتفاق, وما يفضح كذب حماس وكذب نياتها أن فتح أرسلت إلي حماس عرضا بأن ينحي الجانبان, فتح وحماس, الورقة المصرية جانبا, ويتفقا معا حلا لكل هذه المشكلات علي تحديد موعد للانتخابات التشريعية والرئاسية, تتم تحت إشراف ورقابة الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي, لكن حماس رفضت العرض بما يقطع بأن الامتناع عن التوقيع كان مبيتا لأسباب أخري, أولها أن تحتفظ حماس بسلطتها المنفردة علي القطاع, وتسعي لترسيخ هذه السلطة وتكريسها, ولأن حبال الكذب قصيرة تفتش حماس الآن عن أسباب أخري أكثر جسارة وشططا تبرر امتناعها عن التوقيع, وتحيل هذا الامتناع إلي رفض علني كامل لعملية المصالحة نفسها! ويكشف عن هذا التوجه بوضوح بالغ تصريحات قادة حماس الأخيرة التي تتحدث عن ضرورة أن تتضمن ورقة المصالحة بنودا جديدة تنص علي فتح معبر رفح, والتزام الدول العربية بقبول نتائج الانتخابات الفلسطينية, وتعهدها بتأمين قبول دولي لهذه النتائج, وضرورة التوافق بين القوي الفلسطينية ليس علي مجرد ورقة المصالحة, لكن علي استراتيجية جديدة تدعم ما تسميه حماس الصمود والمقاومة الذي يمكنها من الانفصال بقطاع غزة, علي أمل أن تقيم عليه إمارة إسلامية تخصها, وأظن أن هذا هو عشم إبليس في الجنة الذي لن يتحقق أبدا مهما تكن النتائج.