الدولار الأمريكي واليوان الصيني والين الياباني والفرنك السويسري وعملات آسيوية أخري أبطال معركة جديدة ولكن الصراع فيها إلي أسفل. حيث تسعي الدول المتقدمة والنامية علي السواء إلي تخفيض قيم عملاتها مما يخفض أسعار منتجاتها في الأسواق الدولية ويزيد صادراتها في محاولة لرفع معدلات النمو الاقتصادي وفرص العمل بها وسط مناخ اقتصاد عالمي يسوده التباطؤ وعدم القدرة علي التعافي السريع من آثار الأزمة العالمية مثلما كان يتمني الكثيرون. وقد بدأت ملامح الحرب الجديدة في15 سبتمبر الماضي حينما قامت السلطات اليابانية بتدخل غير معلن في الأسواق العالمية من خلال بيع أكثر من2 تريليون ين ياباني( نحو24 مليار دولار) في محاولة لوقف صعوده أمام الدولار, ولكن سرعان ما إكتشفته الاسواق وسارت في الاتجاه المعاكس حتي ارتفع الين لأعلي مستوي له أمام الدولار منذ15 سنة. وهو ما إضطر اليابان إلي الإعلان عن توقف تدخلها في السوق, وإنها لن تعاود ذلك وبررت تصرفها بأنه محاولة دفاعية أمام الارتفاع الكبير في عملتها أمام الدولار مما يهدد إستقرار إقتصادها. وقد أعقب هذا أيضا تدخل رسمي مماثل من كوريا الجنوبية وتايوان في الاسواق لتخفيض عملاتها. وكان البنك المركزي السويسري قد قام في بداية العام بعمليات شراء قوية لليورو في محاولة لزيادة تنافسية المنتجات السويسرية في السوق الأوروبية, ولكن كان رد الأسواق أيضا مغايرا وأدي هذا إلي مزيد من الإرتفاع في الفرنك السويسري أمام العملة الأوروبية. وغالبا ما لا ينجح تدخل الحكومات والبنوك المركزية في الأسواق نظرا لمحاولة تدخلها سرا مما يزيد من الشائعات ويؤدي إلي تحركات في الإتجاه المعاكس. كما أنه إذا سعت جميع الدول لتخفيض عملاتها في نفس الوقت, فهي لن تنجح في تحقيق مزايا تنافسية في التجارة الدولية. ولكن صراع العملات يعكس مشكلة أكبر وأعمق من مجرد محاولة' فهلوة' للحصول علي نصيب أكبر من كعكة النمو في الاقتصاد العالمي. فالمشكلة الحقيقية أبطالها أمريكا والصين وهما السبب الرئيسي في اختلال توازن الإقتصاد العالمي ويعتبر سببا رئيسيا وراء الأزمة المالية العالمية الأخيرة. فمن ناحية تعاني الولاياتالمتحدة من إفراط في الاستهلاك بأكبر من إمكانياتها, مما أدي إلي زيادة عجزها التجاري ومديونياتها الخارجية إلي معدلات غير مسبوقة وفي نفس الوقت فهي تعاني من بطء معدلات النمو الاقتصادي وإرتفاع معدلات البطالة مما يستلزم سياسة نقدية محفزة. ولأن أسعار الفائدة علي الدولار تقترب من الصفر يقوم البنك المركزي الأمريكي( الاحتياطي الفيدرالي) بضخ أموال في البنوك فيما يعرف بالتدخل الكميQuantitativeEasing. وتتسبب هذه السياسة في مزيد من ضخ الدولار والذي تتقبله الأسواق العالمية بإعتباره العملة الدولية الرئيسية ولكن يؤدي هذا إلي مزيد من الإنخفاض في قيمة الدولار أمام العملات الأخري. أما الصين فلا تعكس قيمة عملتها مستوي أداؤها الإقتصادي. فهي أكبر مصدر في العالم وتحقق أكبر فائض في ميزان المدفوعات وفي الوقت نفسه تبقي علي عملتها منخفضة دون تغيير رغم إنتقادات وضغوط الولاياتالمتحدة واوروبا والدول الأخري عليها. فالصين يمكن أن تحل كثير من مشاكل الإقتصاد العالمي إذا تركت قيمة عملتها ترتفع بحيث تزداد القوة الشرائية للمستهلك الصيني من بضائع الدول الأخري فيرتفع الطلب العالمي وبحيث لا تعتمد الصين فقط علي قوة صادراتها التي تغرق بها الأسواق العالمية ولكن علي نمو استهلاكها الداخلي. وقد دعا هذا الصراع بين العملات إلي عودة الرئيس الفرنسي ساركوزي للتأكيد علي أهمية إيجاد عملة دولية جديدة تعكس التغيرات الدولية وتعيد الإستقرار للمعاملات الدولية كبديل للدولار, وهو الاقتراح الذي ستتبناه وتدفعه فرنسا خلال رئاستها لإجتماعات مجموعة العشرين خلال العام المقبل. وتعكس هذه الحرب بين العملات هشاشة وضعف النمو في الإقتصاد العالمي والذي لا يزال يحتاج إلي وقت وكثير من الإصلاحات الجوهرية علي مستوي الدول وعلي مستوي الرقابة الدولية وإدارة الإقتصاد العالمي. وفي محاضرة ألقاها خلال الإجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين أكد الخبير المصري العالمي د. محمد العريان أهمية تعامل الدول والأسواق والمجتمعات مع مفهوم' الواقع الجديد' في مرحلة ما بعد الأزمة العالمية وهو المفهوم الذي أطلقه خلال العامين الماضيين وواجه بسببه إنتقادات وشكوك الكثيرين بإعتباره سيناريو لا يدعو للتفاؤل, فوفقا لتفسيره فإن الأزمة العالمية كانت نتاج أخطاء وإختلالات ومشاكل هيكلية تراكمت علي مدي السنوات والخروج منها يحتاج إلي وقت, ولن يستطيع الإقتصاد الأمريكي أو الإقتصاد العالمي العودة إلي حالته وسرعة نموه خلال مرحلة ما قبل الأزمة في وقت قصير حتي مع تطبيق العلاج السليم. ولذلك فإنه يجب التعامل مع هذا الواقع الجديد من خلال تغير سلوك المستهلكين وذلك بالسعي إلي مزيد من الإدخار ومن المستثمرين في الأسواق بعدم إنتظار الأرباح السريعة, كما ينبغي أن ينعكس هذا أيضا علي السياسات الإقتصادية للدول بحل المشاكل الهيكلية التي تمنع النمو الإقتصادي وقدرتها علي توفير فرص عمل والعمل علي تخفيض مديونياتها. وبينما ينذر هذا الصراع بإحتمالات حرب تجارية جديدة وسياسات حمائية تزيد من عرقلة نمو الإقتصاد العالمي تسعي الدول المتقدمة والنامية الكبري إلي تفادي هذه المرحلة والعودة إلي التنسيق والإتفاق مثلما نجحوا في ذلك في خضم الأزمة المالية العالمية منذ عامين وأنقذوا خلالها العالم من أزمة وكارثة إقتصادية لم يكن ليتوقع أحد مداها. ورغم عدم قدرة الدول علي التوصل إلي حلول مرضية ومستقرة خلال اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين في الأسبوع الماضي- علي الرغم من نجاحها في إحتواء وتهدئة حدة الصراع- إلا أن الأمل لا يزال قائما في قدرة اجتماعات مجموعة العشرين علي المستوي الوزاري أو علي مستوي رؤساء الدول خلال اجتماعهم الشهر القادم في التوصل إلي حل توافقي مستمر يحقق الاستقرار العالمي حتي وإن كان لا يرضي طموحات الجميع. فالبديل خسارة لا يستطيع أن يتحملها الاقتصاد العالمي أو أي دولة في هذه المرحلة.