اشتعلت نيران القوميات الشوفونية الاقتصادية, فتوهجت حرارة العلاقات الدولية بين الدول الرئيسية في الدول الصناعية المتقدمة ونظيرتها في القوي الصناعية الصاعدة. ذلك هو المشهد الرئيسي الذي شهده العالم أخيرا, وجرت وقائعه علي مسرح انعقاد اجتماع وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية تحت رعاية صندوق النقد الدولي, والذي ترجم في صراع الدول من أجل عملاتها الوطنية, بحثا عن أفضل الفرص والإمكانات لزيادة صادراتها الخارجية. ولابد أن يؤخذ في الاعتبار أن اللاعبين الرئيسيين, وهما الولاياتالمتحدة والصين, ثم الاتحاد الأوروبي واليابان, قد انخرطوا في الفصول المتتالية لهذه الأحداث والوقائع منذ فترة طويلة, فقد أطلقت شرارتها الأزمة المالية العالمية, ثم توهجت في ظل البحث عن مخرج من هذه الأزمة من خلال زيادة معدلات النمو المستند علي الطلب الخارجي والصادرات إلي الأسواق الخارجية, فكانت مناورات اللعب بالعملات بين الارتفاع والانخفاض. أما جمهور المشاهدين من باقي دول العالم الواقعة خارج نطاق حزام نار العملات وصراعاتها فقد كانت ضحية لهذه الصراعات والتنافسات, حيث أصبحت احتياطياتها النقدية من العملات الأجنبية رهينة حسابات اللاعبين الرئيسيين, كما أن أسواقها المحلية أصبحت مجالا للغزوات السلعية والخدمية تحت شعار العولمة, بينما إنتاجها الوطني يجاهد من أجل الاحتفاظ بمكانته في الأسواق الداخلية, والبحث عن مخرج في الأسواق الخارجية. وعقدة الأحداث في هذه التطورات الدولية تتمثل في سعي كل طرف من هؤلاء الكبار, في استخدام عملته الوطنية وسعر صرفها مع العملات الأخري, من أجل زيادة قدراته التنافسية في مجال الصادرات عبر آلية الأسعار المنخفضة. فقد لجأت الولاياتالمتحدة من خلال سياستها النقدية المنبسطة وأسعار الفائدة المتدنية, إلي تشجيع الاقتراض ب عملة الدولار علي صعيد أسواق المال العالمية, نظرا لانخفاض عبء خدمة الدين من حيث الفائدة, كما أن هذا الواقع دفع بأرقام ضخمة من رءوس الأموال المقومة بالدولار, والموزعة علي صناديق استثمار ومؤسسات مالية ضخمة, إلي التزاحم علي الأسواق المالية الصاعدة بحثا عن فرص استثمار وعائدات مالية أعلي في فترات زمنية قصيرة, فكانت ظاهرة الأموال الساخنة. وقد تجمعت جميع هذه الخيوط في نقطة أساسية, ألا وهي ضعف الدولار وانخفاض سعره, مقارنة بالعملات الرئيسية الأخري وفي مقدمتها اليورو والين. وقد شكلت هذه السياسة النقدية المنبسطة والرخوة, تحت شعار إنعاش الاقتصاد الأمريكي والخروج به من مأزق الأزمة المالية, آلية لحث الصادرات الأمريكية علي الزيادة من خلال أسعارها التنافسية من ناحية, والضرب تحت الحزام بالنسبة للمخزون المتراكم لدي العديد من الدول الصناعية الجديدة من العملة الأمريكية, وتحديدا الاحتياطي الصيني من الدولارات, وأذون الخزانة الأمريكية من ناحية أخري, ثم كان التلويح بإجراءات مشددة تجاه الواردات من بكين. أما الصين التي كانت موضع الحفاوة والثناء الأمريكي لبرنامجها الرامي لإنعاش الطلب والأداء الاقتصادي المحلي إبان الأزمة المالية.. فقد تجددت عوامل المواجهة الاقتصادية مع واشنطن, نتيجة الخلاف حول سعر صرف اليوان العملة الوطنية الصينية في مواجهة الدولار وغيره من العملات الرئيسية الأخري, مما يعطي للمنتجات الصينية ميزة تنافسية أكبر في الأسواق العالمية, وبالتالي مزيدا من الفوائض المالية التي تأخذ صورة احتياطيات من الدولارات وأذون الخزانة الأمريكية, أو السبائك الذهبية. وتأتي الأرقام لتترجم هذه المواجهة في ظل عجز تجاري أمريكي بلغ7.406 مليار دولار, وفائض صيني في الميزان التجاري بلغ971 مليار دولار, ويقفز الرقم إلي8.682 مليار دولار بالنسبة لميزان المعاملات الجارية, مقابل134 مليار دولار عجزا أمريكيا. فالاتهام الأمريكي ينحرف إلي تقييم العملة الصينية بأقل من قيمتها في مواجهة الدولار ونكوص الصين عن وعودها بالارتفاع التدريجي, حيث لم يتجاوز سعر الصرف96.6 يوان في مواجهة الدولار, وكان يبلغ38.6 منذ عام مضي. والدفاع الصيني يتمثل في أن إطلاق سعر صرف عملها قرار يمس الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي الداخلي, كما أن له تبعات سياسية, ومن ثم لابد من التدرج, وفيما يتعلق ب اليابان, فقد اتخذت قضيتها مع الين وسعر الصرف, وكذلك الصادرات أبعادا مغايرة لتلك القائمة في الولاياتالمتحدة والصين, فبينما حرصت الأولي علي انتهاج سياسة القبضة الناعمة في تقلبات الدولار, وحرصت الثانية علي سياسة القبضة الحديدية في الإبقاء علي سعر اليوان منخفضا, نجد أن الين قد عاني من انقلاب الأوضاع من النقيض ممثلا في سعر منخفض إلي سعر صرف مرتفع, مقارنة بالدولار الأمريكي واليوان الصيني, وكلاهما مر بالنسبة للعملة اليابانية, حيث يعني انخفاض القدرة التنافسية للصادرات اليابانية, وهي المحرك الأساسي وعصب الاقتصاد الياباني, فكان طرح مليارات من العملة في الأسواق العالمية, وسبق أن لجأت اليابان إلي صفقات إنعاش متتالية خلال الأزمة المالية, ثم أعقبها القرارات الأخيرة من جانب البنك المركزي الياباني للحد من ارتفاع الين, الذي ارتفعت قيمته بالنسبة للدولار إلي9.28 ين مقابل1.98 ين منذ عام مضي. فكان الإقراض من جانب البنك المركزي, للبنوك وخفض سعر الفائدة إلي الصفر تقريبا(1.0% إلي0.0%), وأخيرا شراء ديون القطاعين العام والخاص من القطاع المصرفي(06 مليار دولار مخصصات مالية لذلك).. وقد اثارت الإجراءات اليابانية موجة من التحفظات, ولكن طوكيو لم تأبه لذلك, فالأهم هو الإبقاء علي تنافسية صادراتها وفائض ميزانها التجاري الذي بلغ5.78 مليار دولار(081 مليارا فائض ميزان المعاملات الجارية). ويمثل الاتحاد الأوروبي حالة خاصة في دائرته الداخلية, فالشكوي الأوروبية قائمة, والاتهامات موجهة إلي العملة الصينية, خاصة مع ارتفاع اليورو, مما يعني انخفاض القدرة التنافسية لصادرات الاتحاد, والذي لم يتجاوز فائض ميزانه التجاري9.21 مليار دولار. وجاءت القرارات اليابانية بخفض قيمة الين لتزيد من حساسية الأوضاع, وبالتالي اشتعال صراع العملات وتنافس الصادرات.