من الواضح أن الحكومة الفرنسية الراهنة أصبحت في مأزق شديد المنعطف, فقضايا الإصلاح التي تقوم بها الدولة وتقابل بانتقادات حادة علي المستويين المحلي والدولي. لم تكن مجرد سياسة هادفة لإرضاء الناخبين الفرنسيين فحسب بل إنها أمست أمرا واقعا من منظور الحكومة اليمينية الحالية, التي تري أن مشروعاتها من أجل الاصلاح, أمر لابد من التعايش معه. في حين انقسم المراقبون, فالبعض يري انه لا مفر من اقرار قوانين جديدة تتناسب مع تزايد متطلبات الفرنسيين, في ظل عجز ميزانية متصاعد يعود لحقب سالفة, ويتوقع له الخبراء7.7%, والبعض الآخر يري أن هناك تجاوزات كثيرة في اشارة الي فضائح الفساد في شتي دواوين الدولة, ومن الاحري إصلاحها, بدلا من الإصرار الدائم لحكومة اليمين, بإثقال كاهل المواطن محدود أو متوسط الدخل, وإجباره علي تكبد عجز ميزانية الدولة بشكل أو بآخر. فقبل أيام قليلة قامت الدنيا ولم تقعد بعد أن صوت نواب الجمعية الوطنية البرلمان علي مشروع قانون جديد للتقاعد, يطمح لرفع سن المعاش من60 الي62 عاما, فالحكومة تري أن هذا القانون الذي لاقي رفضا شعبيا شديدا, قد يكون الحل الوحيد لمواجهة عجز صندوق المعاشات في ظل ارتفاع معدل أعمار الفرنسيين, وان جعلهم يعملون لفترة أطول, مثل جيرانهم الأوروبيين, قد يكون أفضل خيار لتأمين حاجات التمويل, المقدر له70 مليار يورو بحلول2030. والواقع ان الحكومة لم تسلم من تداعيات تمرير القانون, الذي يتوجب اعتماده بصفة نهائية, ضمن قوانين الدولة, موافقة مجلس الشيوخ عليه, وقد عولت المعارضة اليسارية علي افشال إقراره بالمجلس إلا أن بند رفع سن التقاعد قد تم تمريره الجمعة8 أكتوبر. وهو الأمر الذي أجج من غضب النقابات واليساريين داعين الي اضرابات عامة قد تشل حركة البلاد يومي (12 و16 اكتوبر) وقد سبق وشهدت فرنسا في يومي17 و23 سبتمبر حشدا شديدا بلغ قوامه حسب النقابات والداخلية من2 الي3 ملايين مواطن من جميع أنحاء البلاد للتظاهر اعتراضا القانون, وبحسب استطلاعات الرأي فإن71% من الفرنسيين يؤيدون هذا التحرك الاحتجاجي. اما القانون الآخر الذي تواجهه فرنسا حاليا, والخاص بمشكلة الاندماج والهجرة ويناقشه وزير الهجرة اريك بيسون امام البرلمان في تلك الآونة, يثير استنكارا واسعا أيا كان علي المستوي الداخلي من المعارضة, وجمعيات حقوق الانسان, أو علي المستوي الدولي فقد أعلنت لمفوضية الأوروبية عزمها اتخاذ إجراءات ضد فرنسا لعدم احترامها القانون الأوروبي وتعسفها في ترحيل الغجر. ويذكر أن قانون الهجرة قد تم تعديله دستوريا نحو500 مرة, واليوم يتقدم بيسون بتعديلات جديدة بعد أن ربط الرئيس نيكولا ساركوزي في30 يوليو الماضي في الخطاب الذي ألقاه في مدينة جرونوبل, بين الهجرة, والانحراف, والإجرام. والواقع أن هذا القانون يلاقي رفضا شديدا, ليس فقط من قبل قوي اليسار الفرنسي, بمجمل فصائله, انما يزيد من الانقسامات في داخل الحزب اليميني الحاكم ذاته, فرئيس الوزراء فرنسوا فيون ينأي بنفسه عن سياسة ساركوزي, حسب تصريحاته الأخيرة لاحدي قنوات الاعلام, دون المبالاة ان كانت ستؤثر سلبا علي استمراره في رئاسة الوزراء من عدمه, في ظل التغير الحكومي المنتظر في نوفمبر المقبل, لينضم ضمنيا الي قائمة المعارضين لسياسة ساركوزي, من رؤساء حكومات سابقين مثل جان بيار رافاران, وآلان جوبيه, ودومينيك دو فيلبان, المنتظر ترشيح بعضهم لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة في2012, بل وتنضم للركاب أحد سواعد ساركوزي التي كانت المحرك الرئيسي ومديرة لحملته الانتخابية في2007, وهي وزيرة العدل السابقة وممثلة فرنسا في البرلمان الأوروبي حاليا رشيدة داتي. اما عن المشروع المثير للجدل فيتضمن زيادة حالات إسقاط الجنسية, ومجموعة إجراءات تعمل علي ابعاد الأجانب, بمن فيهم الأوروبيون. والواقع أن أحداث العنف التي شهدتها مدينة جرونوبل بالجنوب الفرنسي, كانت السبب الأساسي الذي أشعل الفكرة لدي ساركوزي ووزير الداخلية, واتخذا منها ذريعة لتعديل قانون الهجرة, وللتذكير بهذه الأحداث, شهدت جرونوبل شبه حرب بين أبناء المدينة, وقوات الأمن اثر مقتل واحد من أبنائها علي يد الشرطة, وصل الأمر لدرجة تكثيف القوات, واستخدام آليات تكنولوجية للسيطرة علي ثورة الشباب, الذين كانوا يهددون رجال الأمن, بل ويطلقون الرصاص الحي عليهم. لذلك يقضي الاجراء الأول من القانون الجديد بمديد حالات نزع الجنسية, ليشمل الأشخاص المتهمين بالقتل, أو العنف ضد أفراد من السلطة المدنية في العشر سنوات الأولي التي تلت حصولهم علي الجنسية. كما يطال القانون الأجانب, بينهم رعايا الاتحاد الأوروبي, وتخص فرنسا في هذه الجزئية تقنين عملية القضاء علي المخيمات العشوائية التي تشوه جمال العاصمة وبعض المدن, من تلك التي يقطنها جماعات الغجر من الرومان والبلغار, وبإقرار القانون يمكن لفرنسا اتخاذ اجراءات ابعاد بحقهم في حال استغلال الاقامة المؤقتة وهي أقل من ثلاث أشهر والتحايل بالخروج والدخول لفرنسا من جديد بهدف البقاء علي الأراضي الفرنسية, كما سيعطي القانون الحق للسلطات بترحيلهم, حال يشكلون عبئا غير مقبول علي نظام المساعدات الاجتماعية, كما يمكن طرد أي أجنبي, أوروبي أو غيره, متواجد علي الأراضي الفرنسية منذ أكثر من ثلاثة أشهر, وأقل من ثلاثة سنوات, حال ارتكاب مخالفات مثل السرقة, والتسول العدواني بهدف السطو, فضلا عن ابعاد من يقوم بالاحتلال للأراضي الخاصة أو العامة. وستنال جزئيات القانون المستفيدين من الاقامة الطبية, حيث إن منح بطاقة إقامة بسبب الحالة الصحية, عدلت لإبطال قرار اتخذه المجلس الأعلي للدولة ابريل2010, والذي يمنح حق الاقامة للأجانب الذين لا يستطيعون الاستفادة من العلاج الطبي في بلدهم, فمن الآن وصاعدا, يمكن لفرنسا ان ترفض استقبال الحالات التي يتوافر لها العلاج في بلدهم الأصلي. وينص تعديل اخر بالحكم سبعة أعوام سجنا بدل خمسة, ومضاعفة الغرامة المالية الي30 ألف يورو, بدل15 ألف يورو حسب القانون المعمول به الآن علي الزواج شبه الصوري, للأجانب المتزوجين من فرنسيين, في حين يترك القانون الباب مفتوحا أمام طالبي الجنسية الفرنسية, شريطة ان يبدي المهاجر المتقدم بطلب التجنس, سلوكا اندماجيا مميزا, في المجالات العلمية, والتربية المدنية, والاقتصادية, والثقافية والرياضية. وفي الوقت الذي تواجه فيه الحكومة الراهنة أكبر سلسلة من القضايا, والفضائح التي عرفتها فرنسا منذ تاريخ الجمهوريات الخمس, وتصدرتها قضية تضارب المصالح المرتبطة باسم اغني سيدة في فرنسا, ليليان بيتانكور وريثة مجموعة لوريال لمستحضرات التجميل ووزير العمل الحالي, والمالية سابقا, اريك فيرت, علي خلفية تقاضيه أموالا غير مشروعة, لتمويل حملة نيكولا ساركوزي في عام2007, يعول ساركوزي الذي يعاني من تدني شعبيته بشكل كبير في استطلاعات الرأي, علي هذه المشروعات الاصلاحية, لاستعادة سلطته داخل معسكره المنقسم مع اقتراب تعديل حكومي مقرر في الخريف, وكذلك في الانتخابات الرئاسية المقرر لها2012, والتي باتت بعيدة المنال بالنسبة له.