..ويمكن القول إن بداية ذلك كله كانت في أعقاب انتصار أكتوبر, فقد استفاد البعض من وهج هذا الانتصار ليكرسوا إعلامهم وخطبهم ومقالاتهم حول ماأسموه الانفتاح. ومن ثم كان القانون43 لسنة1974 والذي أسمي قانون استثمار المال العربي والأجنبي, والمناطق الحرة وجري الحديث عن استجلاب مستثمرين أجانب وضرورة فتح أبواب الاستثمار في مختلف المجالات. لكن القانون كان قد منح هيئة استثمار المال الاجنبي الحق في الاختيار من بين عروض الاستثمار وأتي مستثمرون بالفعل ليعرضوا223 مشروعا تبلغ رءوس أموالها173.5 مليون جنيه لكن الهيئة لم تقبل سوي56 مشروعا, كانت جميعا في مجالات ثلاثة: سياحة اسكان صناعات بلاستيكية, وعلي أي حال بدأ تدفق الاستثمارات الاجنبية وفق أحكام قانون منحها كل شيء: ضمانات ضد التأميم او المصادرة لاتسري عليها لوائح وتنظيمات القطاع العام والعاملين فيه بحيث لايكون لعمالها حقوق أمثالهم في القطاع العام إعفاءات ضريبية.. الخ وهكذا وضعت أسس إقامة اقتصاد جديد آخر غير ذلك القائم علي أساس القطاع العام, وكان من الطبيعي أن يطالب المستثمرون المصريون بذات الحقوق التي يتمتع بها الاجانب. هؤلاء الاجانب الذين أتوا بشروط أخري كان أهمها ايجاد قطاع خاص مصري قوي, وفي يونيو1974 صرح أحد المسئولين في ندوة في جمعية الاقتصاد السياسي والتشريع بأن وزير التعاون الاقتصادي في المانياالغربية قال له لانستطيع أن نأتي إلا بالمشاركة مع القطاع الخاص المصري, فرأس المال لايأتي بمفرده وانما يأتي مع نشاط قطاع خاص قوي في مصر. وقد كان.. فبحكم المساواة مع القادم الاجنبي وبحكم المشاركة معه بدأ نشاط قوي للقطاع الخاص ولا بأس بذلك كله, لكن المشكلة هي أن القطاع الخاص, مصري, واجنبي كانت تجري تهيئته لهدف خفي وملح هو الخصخصة, وماأن تهيأ المشتري حتي بدأ جنون التخلص من كل مؤسسة ناجحة ورابحة في القطاع العام وفي نهاية مايو2003 كانت الحكومة قد باعت194 شركة بشكل كامل او جزئي, ولم يكن البيع شفافا ولا بسعر مقبول أو حتي شبه مقبول, بل كان هناك فساد مروع في عمليات البيع المتعجل هذه, ويتندر الكثيرون بالمنطق العبثي وغير العاقل الذي ساد في تقييم أسعار مؤسسات القطاع العام عند خصخصتها, فالمستثمر الذي يريد إقامة مشروع جديد يشتري الارض بالسعر السوقي رغم أنه سوف يضيف الي سوق العمل اصلا جديدا وعمالة جديدة, بينما الذي يشتري مؤسسة قطاع عام سيحسب له متر الارض علي اساس سعره في اراضي التنمية الصناعية بأقرب مدينة عمرانية جديدة وهو عادة يدور حول150 جنيها للمتر أي بأقل من30% من سعر المتر الذي يشتري به مؤسس مشروع جديد, ومعني هذا أنه اذا باع هذه الارض بالسعر السوقي وهدم المصنع علي رأس عماله سيحقق ارباحا هائلة. وهنا يحلو للبعض أن يحاول خداعنا بالقول إن الهدف من هذه الخصخصة هو زيادة فرص العمل أمام المتعطلين, لكن الواقع الفعلي يكشف لنا وفق لجنة القوي العاملة في مجلس الشعب أن الخصخصة قد أدت الي دفع850 ألف عامل الي سوق البطالة, ويقدر البعض أن الذين خرجوا علي المعاش المبكر بلغوا مليون شخص, وهكذا تصاعد معدل البطالة من2.5% عند بدء هذه السياسة(1975) الي10%(2005). والحقيقة أن الفساد في هذا البيع أو بالدقة هذا التجريف لممتلكات الشعب ومصالحه ومستقبله والذي شابه فساد مخيف قد دفع د. زكريا عزمي الي الصراخ في مجلس الشعب لعنة الله علي الخصخصة ووصف القائمين علي البيع في بعض الاحيان بأنهم حرامية أنا باقول حرامية ولو حبوا يرفعوا علي قضية يتفضلوا وطالب د. زكريا بإحالة المسئولين الي النيابة العامة خصوصا من قاموا ببيع شركات المعدات التليفونية والزيوت والكتان. ولأن الصحوة ضد الخصخصة الفاسدة والمفسدة قد أتت إثر إضرابات واعتصامات من عمال الشركات التي جري إهدارها لصالح اشخاص البائعين والمشترين فإن الحكومة لم تجد أمامها سوي الاعتراف فقد وقف د. محمود محيي الدين في مجلس الشعب ليقول كلمة الخصخصة عبارة بغيضة, ومصطلح منفر لكن لايجوز مهاجمة الخصخصة عمال علي بطال, وقال إنه لامانع من تكرار تجربة شركة قها التي استعادتها الحكومة من المشتري, كما أن الوزير قد اصدر قرارا بوقف بيع الشركات لمستثمر رئيسي, وعلق رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج علي ذلك قائلا: إن هذا القرار لايعني وقف الخصخصة وانما سيتم البيع بالطرح عن طريق البورصة, والآن هل يمكننا أن نسأل أين ذهبت حصيلة الخصخصة ؟ علما بأن وزارة قطاع الاعمال العام عندما كانت موجودة قد أصرت في بيانات زمن الخصخصة علي منع الجهاز المركزي للمحاسبات من مراقبة عمليات الخصخصة حتي شبع من أراد أن يهبر أموال الصفقات ذات الرائحة الكريهة رغم أن أحدا منهم لم يشبع حتي الآن, وفقط في عام1999 سمح للجهاز بالمتابعة بعد أن كان قد تم بيع69% من شركات القطاع العام. ولأن الامر خال تماما من الشفافية فإن أحدا حتي الآن لم يعلن بكم بيعت كل هذه الشركات؟ ولاأين ذهبت حصيلة البيع؟ ولا الرقم المقدر للفساد في صفقاتها ؟ والارقام كثيرة وهي أيضا مخيفة أما حصيلة البيع فإن الجهاز المركزي للمحاسبات يقول إن أوجه انفاقها كالتالي: 3 مليارات و766 مليونا للاصلاح الفني والاداري وإعادة هيكلة الشركات المتبقية تمهيدا لبيعها و3 مليارات و677 مليونا لاخراج العاملين علي المعاش المبكر, أما الباقي وقدره17 مليارا و212 مليونا فقد ذهب الي مصفاة الموازنة العامة, ولا مليم واحد لاعادة إنشاء أي فرص عمل جديدة. ويبقي بعد ذلك سلسلة لاتنتهي من الاسئلة الواجبة الاجابة. لمصلحة من بيعت كل مصانع الاسمنت بما خلق احتكارا قصم ظهر عمليات الاسكان؟ وبعد ذلك تتباكي الحكومة وتزعم أنها بصدد بناء مصنع أسمنت لكسر الاحتكار ونسأل بكم بيعت هذه المصانع وكم سيتكلف المصنع الجديد هذا ان كان هناك مصنع جديد؟ من الذي باع وبرخص التراب المجمعات الاستهلاكية ثم يحاول الآن إقامة محلات جديدة وشوادر غير لائقة وغير صحية لبيع اللحوم ومختلف السلع؟ من هو الذي وقع عقودا وخالية من أية فطنة قانونية وتفرض قيودا مشددة لصالح المشتري وهي في كل الاحوال قيود غير قانونية مثل عقود المعدات التليفونية والكتان وعمر افندي. وكيف؟ ولماذا؟ وبكم ؟ وأخيرا أسأل هل لم يزل أحد يطمع في بيع ماتبقي ؟ وهل لم يزل ذلك المشروع اللغز المسمي الشراكة الشعبية والذي يستهدف بيع كل ماتبقي من أملاك الشعب مطروحا؟ وأسئلة أخري بلا نهاية فهل ثمة اجابات؟ المزيد من مقالات د. رفعت السعيد