شخصنا منذ سنوات المشهد السياسي الراهن في العالم العربي, وقررنا أن ملامحه الأساسية تتمثل في وجود معضلة ديمقراطية. وقد حاولنا في دراسات سابقة نشرت في كتابنا الديموقراطية وحوار الثقافات: تحليل للأزمة وتفكيك للخطاب( القاهرة: ميريت,2007) أن نحدد أسباب تبلور معوقات الديمقراطية العربية. ولا بأس أن نستعيد مرة أخري تشخيصنا السابق, قبل أن نتحدث عن بعد جديد في المشكلة وهو وجود حركات سياسية عربية مضادة للديمقراطية. وهذه الحركات لا تقتصر علي الحركات الإسلامية متطرفة كانت أومعتدلة, ولكن وهذا هو الجديد برزت حركات سياسية ليبرالية مضادة لبعض نظم الحكم السياسية القائمة, وخصوصا في مصر, تسعي من خلال الانشقاق عن النظام وليس معارضته, إلي الوقوف ضد الممارسة الديمقراطية بالدعوة إلي مقاطعة الانتخابات التشريعية( انتخابات مجلس الشعب) والانتخابات الرئاسية, بدعوي عدم وجود ضمانات لإجراء انتخابات حقيقية غير مزورة. ونريد أن نعرض لموقف الحركات الإسلامية بأنماطها المختلفة من الممارسة الديمقراطية العربية, قبل أن تعرض لموقف الحركات السياسية الليبرالية المضادة للديمقراطية! ولكن علينا قبل ذلك أن نبرز ملامح المعضلة الديمقراطية في العالم العربي. هناك أسباب متعددة تدعونا للقول بأن الديمقراطية في العالم العربي أصبحت تمثل معضلة حقيقية! ويمكن أن يرد ذلك إلي التفاعلات المعقدة بين عوامل داخلية, وضغوط أجنبية خارجية, ودعوات عالمية لضرورة تحقيق الحكم الرشيدGOvernance, في هذا العالم الذي نعيش فيه الزاخر بالنظم الشمولية والسلطوية. والعوامل الداخلية التي دفعت إلي التأزم في حل المسألة الديمقراطية في العالم العربي متعددة في الواقع, وقد يكون غياب التراث الفكري والليبرالي, وتغيب الممارسة الديمقراطية عقودا طويلة من السنيين بعض أهم الأسباب. أما فيما يتعلق بغياب التراث الفكري الديمقراطي فمرده إلي طغيان الدولة الإسلامية عبر القرون, بعد أن ألغيت الشوري عمليا, وأصبح الحكم لمن غلب عقب نهاية عصر الخلفاء الراشدين. عشرات الدول الإسلامية في الشرق والغرب صعدت وسقطت بحد السيف, في غيبة تامة عن جماهير المسلمين, والتي كانت في الواقع تحكم بالقهر, اللهم إلا في فترات تاريخية نادرة لا تحسب ولا تعد. ونعرف جميعا أن العرب حاولوا قبل سقوط الخلافة العثمانية استخلاص العروبة وحق العرب في الاستقلال السياسي عن الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر. ولم تتكلل مساعيهم بالنجاح إلا عقب صدامات وثورات, لعل أهمها الثورة العربية الكبري. وإذا كان العرب بشكل عام نجحوا في ترسيخ هويتهم العربية بعيدا عن الإرث العثماني الثقيل, إلا أنهم واجهوا من بعد الاستعمار الغربي بصوره المتعددة استعمار فرنسي استيطاني في الجزائر دام لمدة مائة وثمانين عاما, واستعمار بريطاني في مصر دام لمدة سبعين عاما, ولم يتم جلاؤه عن مصر إلا عام1954 بعد قيام ثورة يوليو1952 بعامين عقب مفاوضات شاقة, وزوال لنظم الوصاية والانتداب علي سوريا ولبنان وفلسطين, وانتهاء للاحتلال الإنجليزي في العراق. ولو انتقلنا إلي الخمسينيات فيمكن القول إنه مما لاشك فيه أن القوي القومية والوطنية العربية في مختلف بقاع العالم العربي وضعت أهداف التحرر القومي والوطني باعتبارها أولوية أولي, وكان ذلك منطقيا بطبيعة الحال. فلم يكن هناك مجال لممارسات ديمقراطية والأوطان محتلة بالقوي الأجنبية, أو خاضعة لنظم الوصاية والانتداب. وهكذا يمكن القول إن الوجود الاستعماري في العالم العربي كان في حد ذاته عقبة تاريخية وقعت في طريق التطور الديمقراطي الذي شهدته بلاد متعددة لم ثخضع لنير الاستعمار. وعلي ذلك يمكن القول, أن الحساب التاريخي إن صح التعبير مع النظم السياسية العربية ينبغي أن تكون بدايته مع حصول الدول العربية علي الاستقلال. ومع ذلك يمكن القول إن عددا من الدول العربية مارست أنواعا من الممارسة الديمقراطية المقيدة في ظل الاستعمار, ومنها مصر علي سبيل المثال, فقد صدر الدستور المصري عام1923 وتمت في ضوئه انتخابات متعددة في ظل تعددية سياسية, أفرزت حزبا للأغلبية هو حزب الوفد, وأحزابا متعددة للأقلية مثل الأحرار الدستوريين وحزب السعديين وغيرها. وغياب التراث الفكري الديمقراطي الذي نتحدث عنه يكشف عنه الفقر الشديد في الكتب والدراسات عن الديمقراطية في المكتبة العربية. والشاهد أننا استلهمنا المثال الديمقراطي الغربي من خلال مجموعة من الكتابات التي قام بها رواد النهضة العرب, ولعل علي رأسهم رفاعه رافع الطهطاوي, وأحمد لطفي السيد في مصر, وخير الدين التونسي في تونس, وعديد من الرحالة العرب الذين زاروا أوروبا ونقلوا إلينا بعض الأفكار الديمقراطية. كما شرحوا لنا المؤسسات الدستورية والأحزاب السياسية الأوروبية. غير أن هذا الفقر الفكري هو أحد أسباب المشكلة, أما السبب الأهم فهو أن دولة الاستقلال العربية غيبت الممارسة الديمقراطية نتيجة أوضاع شتي. لعل أهمها أن النخب السياسية التي حصلت بنضالها علي الاستقلال من الدول المستعمرة, لم تكن مستعدة لتداول السلطة من خلال انتخابات سياسية دورية تدور في ظل نطام ديمقراطي. ومن ناحية أخري حين تحولت بعض دول الاستقلال العربي مثل سوريا ومصر إلي سياسة الانقلاب علي النظام القائم, وإلغاء النظام الديمقراطي المنقوص الذي كان سائدا, أدي ذلك بطبيعة الأحوال إلي سيادة النظم السياسية الشمولية والسلطوية, ووقف النمو الديمقراطي في هذه البلاد. في سوريا منذ انقلاب حسني الزعيم عام1949 في الحركة التصحيحية التي قام بها الرئيس حافظ الأسد, وفي مصر منذ قيام ثورة يوليو1952, حدث تجميد كان لابد منه بحكم واقع الحال للتطور الديمقراطي. ولا نريد في هذا المجال أن نثير أسئلة افتراضية من قبيل ماذا لو لم يقع انقلاب يوليو1952 والذي تحول إلي ثورة ترفع شعار الديموقراطية الاجتماعية, هل كان مقدرا للديمقراطية المصرية أن تنمو وتتطور, في ظل إصلاح سياسي, يسمح لحزب الوفد والذي كان هو حزب الأغلبية, أن يحكم في ظل نظام ديمقراطي سيتطور مع الزمن ؟ وأيا ما كان الأمر, فإن الحقبة التاريخية التي سادت فيها نظرية الديمقراطية الاجتماعية والتي اضطهدت فيها النظرية الديمقراطية, حيث اعتبرت الأحزاب السياسية من عمل الشيطان الاستعماري, أدت بالضرورة إلي وقف النمو الديمقراطي في عديد من البلاد العربية. وإذا أضفنا إلي ذلك فئة الدول العربية التقليدية التي تفتقر إلي دستور حديث يقوم بالفصل بين السلطات, ويشرع لحريات التنظيم والتعبير, ويسمح بالتعددية السياسية والحزبية لأدركنا أن المعضلة الديمقراطية في الوطن العربي ترد مشكلتها عوامل متعددة, بعضها يتعلق بالدول الغربية الاستعمارية, وبعضها الآخر يرتبط بنوع النظم السياسية العربية التي سادت العالم العربي بعد الاستقلال. ما سبق مجرد مقدمة ضرورية للحديث عن المعضلة الديمقراطية والحركات السياسية العربية. وفي هذا المجال ينبغي أن نفرق بين حركات إسلامية متطرفة مثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر,وجماعة العدل والإحسان بالمغرب, وجماعة الإخوان المسلمين في مصر,والتي لا تستخدم العنف ولا تدعو إليه, ولكنها تحاول بطرق شتي تعويق الممارسة الديمقراطية.ومن ناحية أخري ظهرت في مصر جماعات سياسية معارضة متعددة من ناشطين سياسيين مستقلين لا يرتبطون بالأحزاب السياسية القائمة بالضرورة. وبالرغم من قلة عدد أعضاء هذه الجماعات, إلا أنها قامت بدور بارز في الحراك السياسي من خلال تنظيم وقفات احتجاجية وتنظيم مظاهرات متعددة. غير أن عددا من هذه الحركات سرعان ما أصابها التفكك نتيجة المنافسات العقيمة علي القيادة, وغياب الرؤية السياسية المتكاملة. وقد حاولت هذه الجماعات مؤخرا تعويق الممارسة الديمقراطية من خلال الدعوة لمقاطعة الانتخابات التشريعية والرئاسية. وقامت معركة بينها وبين أحزاب المعارضة الرئيسية التي قررت جميعها وبلا استثناء خوض الانتخابات, مما اعتبرته هذه الجماعات المعارضة المشتتة خيانة للديمقراطية! وسنحاول في مرة قادمة أن نفصل القول حول دور الجماعات السياسية العربية التي أشرنا إليها في تعويق الممارسة الديموقراطية في العالم العربي.