المقدمات تحدد النتائج. مؤشرات اليوم كثيرة وكلها تقول ان فلاديمير بوتين هو الرئيس العائد وليس القادم الي الكرملين دون منافسة مع ميدفيديف في انتخابات الرئاسة المرتقبة في مطلع عام2012 رغم تلميح المتحدثة باسم الأخير حول تطلعه لولاية ثانية. لم يكد فلاديمير بوتين يفرغ من لقاءاته مع ضيوفه الأجانب في منتدي فالداي التي كشف فيها عن إبعاد طموحاته الرئاسية حتي ظهرت ناتاليا تيماكوفا المتحدثة الرسمية باسم الكرملين لتقول ان تحقيق المهام التي سبق وأعلنها الرئيس ميدفيديف يتطلب أكثر من فترة رئاسية وأن مدة خطط تحديث روسيا التي تؤيدها الغالبية الساحقة في المجتمع والحكومة تتطلب ليس عاما أو عامين أو ثلاثة وتتعدي فترة رئاسة واحدة إذن هو تلميح يرقي إلي حد التصريح بالرغبة في الاستمرار. واذا كان الحلم حقا مشروعا لبسطاء المواطنين فانه يبدو بالنسبة للرؤساء أوامر. لكن ذلك كان يبدو ممكنا لو لم يكن بوتين علي مقربة. فرغم كل المناورات التي يحاول بوتين من خلالها اخفاء مقاصده الحقيقية يبدو الكثيرون في الداخل والخارج علي يقين من طموحاته صوب العودة إلي عرش الكرملين واستئناف مسيرته التي بدأها مع مطلع هذا القرن لولايتين أخريين ساهم خلفه دميتري ميدفيديف في مد سنواتهما من خلال تعديلات دستورية, بما يعني بقاءه علي العرش حتي عام2024!! ولم لا؟ ألم ينتخب الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت علي رأس الولاياتالمتحدة لأربع ولايات وهو ما لم يكن يتناقض مع الدستور الأمريكي علي حد قول بوتين خلال لقائه مع اعضاء ملتقي فالداي من الصحفيين وخبراء السياسة الأجانب الذين طالما حرص بوتين علي لقائهم منذ اعلانه عن تأسيس هذا النادي وعقد جلسته الأولي علي ضفاف بحيرة فالداي في عام.2004 وتأكيدا لدستورية ومشروعية طموحاته قال بوتين انه وخلفه ميدفيديف لاينويان اتخاذ أية خطوات من شأنها انتهاك الدستور. اذن هو تلميح يرقي إلي حد التصريح ولن ينال منه ما يبذله وسوف يبذله بوتين وخلفه من محاولات لإرباك حسابات المعلقين والمتابعين للشأن الروسي!.. ودعما لهذا التوجه يمكن رصد دلائل أخري كثيرة تتمثل في تحركات الزعيم سواء خلال مواجهات الدولة مع كارثة الحرائق أو عبر ماراثون الشرق الأقصي علي متن سيارة لادا التي قادها بوتين بنفسه لمسافة ألفي كم وأدلي خلالها بالعديد من الأحاديث الصحفية التي تضمنت الكثير من التصريحات المثيرة للجدل. علي أن اساليب الإثارة التي تتسم بها عادة تحركات وتصريحات بوتين تفرض علي الطرف الآخر من الثنائي الحاكم أي ميدفيديف قدرا مماثلا من النشاط تتباين أشكاله بقدر تباين سمات الشخصيتين واختلاف الأسلوب. واذا كان بوتين صاحب النهج الشمولي التسلطي يبدو الأقرب إلي الشارع الروسي لدي اختياره لتعابيره وتحركاته سواء من خلال قيادته للدراجة النارية مع الهواة والمحترفين من هذه الرياضة الشبابية أو اصراره علي اعلان تملكه وقيادته للسيارة الشعبية لادا, والمشاركة في قيادة المقاتلات وطائرات الرش أو لقاء زملاء المهنة من العائدين من الولاياتالمتحدة, ومخاطبة الجماهير التي اصطفت لتحيته ومناشدته التدخل لحل مشاكلهم ومشاطر همومهم, فان ميدفيديف الليبرالي يحاول عدم التخلف عن قرينه من خلال التركيز علي مخاطبة الشباب عبر الانترنت والتويتر والفيس بوك ومغازلة الصفوة وممثلي الانتاليجينسيا أو تركيزه علي الحديث عن الدولة العصرية والقرية الذكية في ضاحية سكولكوفو باعتبارها الطريق الي المستقبل, وإن تبدو الخسارة واضحة حين يحاول تقمص دور القائد الحازم الحاسم للأمور حلال المشاكل ولاسيما إبان وقوع الكوارث الوطنية. ولعل ما يقال عن احتمالات المواجهة بين الصديقين يظل في اطار التكهنات التي يصعب تصديقها وهما اللذان أعلنا أكثر من مرة عن أنهما لم ولن يتنافسا علي المنصب في أية انتخابات رئاسية. واذا كانت ثمة خلافات تظهر هنا وهناك فانها لن تتخذ ابعادا اكثر إلا فيما يتعلق باحتمالات تضارب المصالح بين اعضاء فريقيهما في الكرملين والبيت الأبيض مقر الحكومة الروسية وهي خلافات نكاد نجزم بأن بوتين سوف يقمعها إن لزم الأمر بما يخدم توجهاته ولاسيما ان الجميع تقريبا في ديوان الكرملين يدينون بالولاء لبوتين الذي جاء بهم وسبق وتركهم في مواقعهم تحسبا لما قد لا يحمد عقباه, ومنهم رئيس الديوان سيرجي ناريشكين والكثيرون من نوابه وعلي رأسهم الكاردينال فلاديمير سوركوف ممن عملوا مع بوتين خلال سنوات ولايتيه!. ولنا فيما فعله ويفعله بوتين مع محافظي المقاطعات والجمهوريات وبقية ممثلي الجهاز الإداري للدولة مثال علي ذلك حيث يحاسبهم ويعنفهم ويطالب بعضهم بالاستقالة علانية أمام مرؤوسيهم ومواطنيهم رغم تبعيتهم دستوريا لرئيس الدولة. غير ان هناك من يقول ايضا ان تعجل بوتين الافصاح عن مقاصده يمكن ان يصيب الساحة السياسية بنوع من عدم الاستقرار من منظور احتمالات اهتزاز صورة ميدفيديف ومكانة الكرملين. لكن بوتين وحسبما اشارت احداث الأشهر الأخيرة يرفض الانزواء بعيدا عن الصدارة بما يعني انه لن يكون قادرا علي الابتعاد عن صدارة الساحة السياسية لمدة ست سنوات أخري بعد رفع مدة الرئاسة وكانت أربع سنوات. وهي فترة طويلة نسبيا لابد وأن تحمل في طياتها مخاطر افلات زمام الأمور من بين يديه علي ضوء تصاعد نفوذ الآخر بما يتراكم لديه من نقاط يحققها خصما من رصيد بوتين واحتمالات ظهور الرغبة في التخلص من المناويء وأية عناصر عكننة. وتلك مخاطر واحتمالات لا أحد يقول ان بوتين يمكن ان يسمح بها وهو صاحب اليد العليا والمتحكم في أجهزة القوة شكلا, وموضوعا. واذا كان ميدفيديف يطرح التحديث و عصرنة الدولة في مقدمة أولوياته فيما يطرح بوتين التنمية المستدامة وفرض الأمن والاستقرار في صدارة اهتماماته فضلا عن مكافحة الفساد المشكلة التي استعصت وتستعصي علي الحل بالنسبة لكليهما فإن ايا من هذه الأهداف لم يتحقق ولم يبق من الزمن ما قد يكفل تحقيقه. فالارهاب لايزال يؤرق مواطني الدولة الروسية والفساد يظل ينخر في عظام الوطن والمواطن بينما تتعثر التنمية ويظل النفط والغاز السبيل الرئيسي لإعاشة الدولة مثلما كان الحال طوال العقود الأخيرة. إزاء ذلك يتوقف الناخب عند ما يطرحه بوتين ذرا للرماد في العيون حول احتمالات ظهور المرشح الثالث الذي قد يخوض المنافسة ضد أي من فرسي السباق. إما عن هذا المرشح فقالوا انه واحد من اثنين: اما ايجور سيتشين النائب الأول لرئيس الحكومة والمسئول عن ملفي الطاقة والصناعة وصديق بوتين منذ سنوات عمله في سان بطرسبورج وفالنتينا ماتفيينكو محافظة سان بطرسبورج( المعروفة تحت اسم تاتشر واحيانا ميركل روسيا) والمحسوبة ايضا علي بوتين, وكلاهما من ابناء المدينة الأم التي تنتمي اليها الغالبية الساحقة من كبار قيادات الدولة والحكومة. علي ان ذلك يظل في اطار المناورات الرامية الي التهدئة وصرف الانظار والابقاء علي الموضوع اكثر سخونة وإن جري ذلك في اجواء يكتنفها الغموض وتغلب عليها الاثارة, قصاري القول ورغم ان الابواب لاتزال مفتوحة علي كل الاحتمالات فان الاحتمال الأكبر يظل مع اعادة انتخاب بوتين لولايتين تاليتين. وهذا ما سوف سيفعله بوتين وفي أغلب الظن بالاتفاق مع صديقه ميدفيديف الذي طالما أعلن انه لن يخوض معه أية منافسه علي اللقب وسيكون المرشح بالاتفاق والتراضي. وان كان قبول ميدفيديف لمثل هذا الخيار سيكون خيار إذعان نقولها دون إغفال حقه في الأمل ولاحتمالات المفاجآت بعد ان افقدتنا موسكو القدرة علي الدهشة!