ذكرت في مقالة الأسبوع الماضي حكاية الكراتين المغلقة التي كانت جوانب بعضها قد تفجر عن كتب تناولت من بينها واحدا أفتقدته: مصر وكيف غدر بها هذا الكتاب الممتع والموجع لمؤلفه: ألبرت فارمان قنصل الولاياتالمتحدة. الذي كان تسلم عمله في عام1876 إبان حكم الخديوي إسماعيل لمصر, والذي ترجمه عبد الفتاح عنايت( البطل المصري المعروف باسم الشهيد الحي الذي اغتال السير لي ستاك1868 1924 سردار الجيش المصري وحاكم السودان) وقد صدر عن المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة والنشر عام1964 في(330 صفحة من القطع الكبير وبثمن17 قرشا). والكتاب يسجل فيه الرجل مشاهداته لمدينة القاهرة وأحوال الحكم والناس فيها كما يقدم وصفا شديد الدقة للخديوي إسماعيل وحتي لتكاد تراه رأي العين, مرورا بحكاية القناة وعرابي ودنشواي ورحلته إلي سيناء وعمليات النهب واصطناع الديون التي أدت إلي خلع الخديوي عن عرشه, ولاينتهي الكاتب إلا بمغادرته مصر عشية الشغب الذي جري بالإسكندرية واتخذ ذريعة لضربها, وأنا أريد الآن أن أستخلص لك بعضا من ملامح قاهرة هذه الأيام. السيد فارمان قضي ليلته الأولي في مصر بفندق لايذكر اسمه ولكننا نعرف بسبب موقعه أنه فندق الكونتننتال الكبير, أحد ممتلكات الخديوي الذي أنشئ لاستقبال بعض من ضيوف الأحتفال بافتتاح القناة, وهو كان يقع حيث يشير إبراهيم باشا بأصبعه الآن من علي صهوة جواده, مكان هذه المحلات والممرات البائسة, وأبناء جيلي والأصغر سنا مازالوا يذكرون هذا الفندق غير المرتفع بشرفته الهائلة ذات الأرضية الرخامية المطلة علي الميدان بسقيفتها الممتدة, كما يذكرون أن المشهد الخلفي لهذا التمثال الذي نحمد الله أنه مازال هناك, كان مبني الأوبرا بكتلته التي توحي بالخفة والتميز, وحديقته حيث نمشي ونلمح عبر أعواد سورها الحديدي تماثيل ربات الجمال العاريات في رخامهن الأبيض وهن متباعدات تحت الأغصان الخضراء, والأوبرا هذه ويا للعجب, كانت مكان الجراج الأسمنتي البشع. يحكي الرجل إذن كيف هيئ لهم أن يجلسوا في هذه الشرفة ويشاهدوا المناظر العابرة التي تنطق بالفتنة الجارفة ويستنشقوا الهواء النقي, الشوارع مكتظة بالمارة يتجاوب فيها وقع أقدام خليط من الناس وهم يسرعون في طريقهم, هناك توجد الحمير لركوب السائحين أو النساء ويسرع وراءها المكاريون يستحثونها وتوجد أعداد كبيرة من الجمال تحمل بدوا أو حبوبا, كما توجد عربات يركبها بعض النسوة الجميلات من حريم الخديوي تغطي وجوههن غلالات رقيقة ويرافقهن أغواتهن, وهناك عربات أخري أقل فخامة تحمل بعض النساء الأكثر تحفظا وهن زوجات وبنات البكوات والبشاوات, أما السقا فهو يسير حاملا قربته مملوءة بالماء يرش بها الشوارع أو يوزع جرعاته علي المارة في أكواب مصنوعة من النحاس الأصفر وينادي يعوض الله. وإلي جانب ذلك تري بعض الجنود تصاحبهم الموسيقي وتري الشحاذين وتسمع وقع أقدام لاتنقطع من اليهود والأقباط والمسلمين والعرب والأتراك والسوريين والأرمن والعجم والأوروبيين وكل منهم في زيه الذي يسير به, هذه هي المناظر اليومية الخلابة التي تجري في شوارع القاهرة. وتكشف شرفة الفندق من كل جانب حدائق مليئة بأشجار ونباتات المناطق الحارة, وعبر الشارع تقع حديقة الأزبكية ببحيرتها ونافوراتها وجبلاياتها ومغاراتها وهي تحتل عشرين فدانا أو يزيد وتتخللها الأشجار النادرة التي جلب أغلبها من الهند, وانك لتسمع صوت البط في مجاري المياه الصناعية وتري البجع الأبيض والأسود وهو يتهادي في رشاقة كما تشاهد قوارب النزهة الصغيرة تشق الماء ويمرح فيها الأطفال, ويتدفق القاهريون عصر كل يوم ومساءه إلي هذه الحديقة لكي يستمتعوا بصوت الموسيقي التي تعزف في الأكشاك ويشاهدوا أعمال الشعوذة, الأمر الذي يتيح فرصة عجيبة لمشاهدة خليط من الناس من كل الأشكال والجنسيات والأديان الذين يتكون منهم سكان القاهرة. كما يحيط بالحديقة من جميع الجوانب مبان فخمة, من بينها دار الأوبرا, وقد منحتني هذه النزهة أملا تحقق بعد ذلك بأكمل معانيه في إقامة سارة بعاصمة الخديوي.