في صبيحة أحد الأيام ذهب ألبرت فارمان صاحب كتاب مصر وكيف غدر بها ليلتقي الخديو إسماعيل من أجل تقديم أوراق اعتماده كقنصل أمريكا في مصر بدءا من عام1876. وإذا كنا عادة لا نعرف عن الشخصيات التاريخية إلا ما قاموا به من أدوار, فإن فارمان يقدم وصفا شديد الدقة لملامح الخديو, مما يعد هدية نادرة لكتاب الدراما وغيرهم, وصفا يجعلك تراه رأي العين, وتصنع له حضورا بالغ الحيوية والإقناع. يقول: دخلت القصر فتقدمني كبير التشريفات علي سلم كبير صنع من الرخام حيث لقيني الخديو في غرفة استقبال فاخرة, وقد استقبلني سموه عند الباب استقبالا حارا. وبعد التقديم والتحية المعتادة اتخذت مقعدي عند طرف إحدي الأرائك الكبيرة وأخذ الخديو مقعده في الطرف الآخر وقد امتدت قدماه أمامه علي الطريقة التركية. وكان حديثنا يدور حول موضوعات عامة, ورحب بي وسألني إن كنت مسرورا بزيارتي كما سأل عن صحة رئيس الولاياتالمتحدة وحالة البلاد العامة, ثم تمني أن أستمتع بإقامة طيبة في بلاده, كما أبدي استعداده لعمل كل مابوسعه لجعل زيارتي مريحة. ولما كان لا يتكلم الانجليزية فقد كانت محادثاتنا باللغة الفرنسية التي كان يتكلمها بطلاقة. لم يكن إسماعيل باشا جذابا من الناحية الجسمانية فقد كان يبلغ من العمر حوالي السابعة والأربعين قصير القامة عريض المنكبين ضخم الجثة ولون بشرته أكثر سمرة من لون بشرة الأوروبيين أما جفونه فكانت مرتخية وجفنه الأيسر أكثر ارتخاء من الأيمن, وعندما تكون ملامحه ساكنة تبدو عيناه وكأنها نصف مغلقة, وكانت حواجبه فاحمة اللون خشنة كثة الشعر بارزة إلي الأمام, أما لحيته البنية الداكنة فكانت قصيرة. وكانت أذناه كبيرتين وليست من الحسن بمكان.. وكان يرتدي حلة إفرنجية سوداء, غير أن معطفه كان من الطراز الاستامبولي, أي أنه معطف بصف واحد ذو ياقة منتصبة كما كان يرتدي علي رأسه الطربوش الأحمر. وكانت له عادة التحدث وإحدي عينيه مغلقة. بينما يمعن النظر بعينه الأخري في أدق تفاصيل, وحركات, وطريقة حديث, وأفكار هؤلاء الذين يتحدث معهم. ورغم كل نقائصه ومساوئه الجسمانية كان محدثا ممتعا يبتسم في كثير من الأحيان, بشوشا دائما ومثيرا للاهتمام كان صوته هادئا يبعث علي السرور وألفاظه منتقاة ومعبرة وكان فائق الذكاء, ولديه معلومات دقيقة حتي عن التفاصيل التي تخص حكومته وشئونها الخاصة الشاسعة وتبرهن نظرته الحادة الثاقبة( حينما تكون عيناه مفتوحتين) وإجاباته السريعة الدقيقة ومعلوماته الخاصة بموضوعات ليس من المفروض أن يكون اصلا ملما بها تبرهن لكل هؤلاء الذين استمتعوا بالحديث معه, أنه رجل يمتاز بقدرة غير عادية. وحسب العرف في البلاد لم يكن في مقدور أي أمريكي أن يتقدم إلي الخديو إلا عن طريق ممثله الدبلوماسي وقد أتيح لفارمان أن يقوم بهذا الواجب مرارا خلال السنوات الخمس التي قضاها في مصر, وهو يذكر انه قدم للخديو قائد إحدي البوارج الحربية, حينئذ أخذ يوجه إليه سلسلة من الأسئلة التي تخص السفينة, لم يستطع القائد نفسه أن يجيب عن بعضها بعد ذلك راح هو يتطرق إلي وصف سفنه الخاصة وصفا تفصيليا وقد عبر القبطان وغيره من الضباط الذين كانوا برفقته فور انتهاء المقابلة عن دهشتهم البالغة من معلوماته الوفيرة التي كانت تدهش العسكريين والمدنيين, هذا فضلا عن قدرته المذهلة علي اكتساب ثقة محدثه وإزالة كل أنواع الحرج عن كاهله. ويقول إنه بعدما ارتقوا السلم الضخم واستقبله الخديو وقادهم إلي غرفة الاستقبال وبعد أن تبادل معه بعضا من كلمات المجاملة دارت عليهم فناجين القهوة, وحينما استأذن في الانصراف قدم له الخديو سيفا مقوسا ذا نصل دمشقي وغمد مرصع بالذهب, كرمز لسلطته في بلاده, وعندما غادرا القصر مرا بين صفوف من الجند الذين قاموا بتحيته, بعد ذلك تبادل الزيارات مع شريف باشا وأبناء الخديو وغيرهم من الشخصيات البارزة في مصر.