سواء اختلفنا مع الدولة أو اتفقنا, انتقدناها وسددنا لها الهجمات أم أيدناها, اعتبرناها رخوة وظهرت عليها علامات العجز والتحلل والفساد أم رأيناها قوية فاعلة, فهي في النهاية دولتنا المسئولة عن إدارة شئون وطننا ومجتمعنا وهو ما يجعلنا لا نقبل أن تتعجرف معها شركة ما وهي تعرض مطالبها أو وجهة نظرها, أو أن يأتي مدير أو موظف في كيان ما ويستعرض معها عضلاته رافعا شعار المن عليها, ونري أن الافتئات عليها باستعراض العضلات والعجرفة هو مس بنا جميعا... وأقول ذلك بمناسبة الطريقة التي يتحدث بها مديرو شركات المحمول من وقت لآخر وهم يخاطبون الدولة وهيئاتها المختلفة ذات العلاقة بأعمالهم, فقد بدأت نكهة العجرفة تتسلل إلي أحاديثهم شيئا فشيئا, حتي ظهرت بوضوح وبصورة لافتة في التصريحات التي نشرت بالصحف الأسبوع الماضي لحسان قباني الرئيس التنفيذي لشركة موبينيل وحوت خطابا غير موفق. تحدث قباني لمجموعة من الزملاء في لقاء رمضاني نظمته الشركة, فطاف علي مجموعة من القضايا, تناولها جميعا وكأنه يفاوض الدولة في معركة من موقع قوة, فجاء حديثه بنكهة العجرفة, ففيما يتعلق بمستقبل قطاع الاتصالات وجه أمره إلي الدولة بقوله أنه' من الضروري وضع خطة متكاملة لتطوير قطاع الاتصالات خلال الخمس سنوات المقبلة تشارك فيها الشركات العاملة في السوق وعلي رأسها موبينيل باعتبارها أكبر شركات المحمول في مصر', واستطرد قائلا' مازالت هذه الخطة المشتركة غائبة وما يجري الآن في القطاع ليس نتاج خطة موضوعة مسبقا, وربما تكون هناك خطة ولكنني لا أراها'. أفهم أن يقال هذا الكلام إذا كانت الدولة- والوزارة المسئولة عن هذا القطاع طوال السنوات الماضية- قد انفردت بوضع خطط قطاع الاتصالات, وهبطت بها علي رؤوس الجميع قسرا, أو أن موبينيل وغيرها كانت كما مهملا خارج اللعبة, فالكل يعلم أن ما حدث من مشاركة بين الدولة والقطاع الخاص في هذا القطاع تحديدا ربما يكون سابقة لم تحدث في العديد من قطاعات الدولة الأخري, حيث تم إدخال القطاع الخاص في عمليات مشاركة معلنة واسعة النطاق, لعبت فيها موبينيل وغيرها دورا في التفكير والتخطيط والتنفيذ, بل والضغط وإعادة رسم السياسات لصالح تجمعات رجال الأعمال وشركات المحمول, وقد بلغ الدور الضاغط والمشاركة المؤثرة من قبل القطاع الخاص درجة أثارت حفيظة الكثيرين, وتعرضت بسببها الدولة للهجوم والانتقاد, وقد شاركت شخصيا في هذا الهجوم مرارا. وحقيقة لا أعرف أين كان السيد قباني منذ عام1999 حينما عقدت مئات اللقاءات العلنية والسرية بين الدولة وجميع شركات القطاع الخاص في القطاع بما فيها شركات المحمول الثلاث, وهل يعلم بأمر السياسة المعلنة من قبل الدولة في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والقائمة علي تنفيذ كل البرامج والمشروعات والمبادرات والخطط المشاركة مع القطاع الخاص أم لا يعلم. إن كان لا يعلم فهذه مشكلته, وإن كان يعلم فإني أقول له أن منطق المشاركة مع القطاع الخاص حقق نتائج جيدة, كما أحدث أحيانا افتئات علي حقوق المجتمع والمستهلكين لصالح شركات القطاع الخاص وعلي رأسها موبينيل, وهنا أسأله: ماذا تريد من هذا الاستعراض للعضلات: هل تريد أن يمصمص القطاع الخاص وموبينيل علي رأسه البقية الباقية من دور الدولة ليقف المجتمع والناس مكشوفين تماما أمام مصالح القطاع الخاص وطموحاته الجارفة صوب مزيد من النمو والأرباح؟ انتقل السيد قباني بعد ذلك للحديث عن العلاقة مع جهاز تنظيم الاتصالات وذكر قضيتين, الأولي هي قضية توافر الأرقام المخصصة لموبينيل والتي قالت الشركة مرارا أنها ستعيق انضمام مشتركين جدد لها, وقال فيها' نواجه مشكلات مع جهاز تنظيم الاتصالات في الترقيمات ونتعاون مع مسئولي الجهاز في حلها في أسرع وقت ممكن'. انظر هنا إلي قوله' نتعاون مع الجهاز', ولو أنصف لقال' طلبنا' أو' شكونا' أو' تظلمنا' أو' اعترضنا علي ظلم وقع علينا من الجهاز', لأن هذا القول يعني اعترافا منه ومن الشركة بأن الجهاز في الأصل جهة تنظيم ممثلة للدولة, ومن ثم يتعين علي السيد قباني وشركته الانصياع له, أما قول' التعاون معه', فيعني أن الشركة تتعامل مع الجهاز الممثل للدولة رأسا برأس, وليس كجهة ذات سيادة تعمل موبينيل ورئيسها التنفيذي تحتها, وهذا الاختيار للألفاظ إنما يعكس إحساسا بالقوة وميل للاستعراض أفضي إلي العجرفة في القول. قد يتهمنا البعض بتصيد اللفظ, وأقول مهلا, فحديث الرجل يثبت أنها ليست زلات لسان أو تسرع في اختيار الألفاظ, وإنما هي نكهة عجرفة عامة في الحديث, فحينما تحدث الرجل عن خدمة تحويل الأموال عبر شركات المحمول قال:' نحن جاهزون ولكن لا نستطيع تقديمها قبل أن يكون الجهاز المنظم جاهزا', وأضاف' الجهاز اشترط قبل تشغيل الخدمة الانتهاء أولا من وضع القواعد والضمانات التي تجعله أكثر جاهزية في الرقابة والإشراف علي الخدمة الجديدة' ولو أنصف الرجل وكان متوخيا مقتضيات الحديث إلي الدولة ومؤسساتها لأكد أولا علي أن موعد إطلاق الخدمة حق' سيادي', للدولة مطلق السلطة في تحديده, ثم يشير بعد ذلك للأمور الإجرائية التقنية المتعلقة بجاهزية الشركات لتقديم الخدمة وعدم جاهزية الجهاز, أما إسقاط الحديث عن سيادة الدولة علي الخدمة وشركاتها, وإظهار الدولة علي انها فقط متهمة بالتقصير أمام الشركات فأراه لونا من عجرفة القول التي دأب مديرو هذه الشركات علي إتيانها في أحيان كثيرة, وفي هذه القضية تحديدا لا أري مبررا يجعل الرئيس التنفيذي لموبينيل يقفز أو يتناسي حق الدولة المطلق في اختيار قراراتها وتوقيتاتها, وفق ما تراه من قواعد ضامنة للرقابة والإشراف, لكن ماذا نقول فيمن يقدم استعجال الربح علي سلامة المجتمع. علق السيد قباني أيضا علي الرأي الذي طالب بإيقاف أو إعادة النظر في الدعم المقدم من الدولة لشركات الإنترنت بعد انتقال ملكيتها لشركات المحمول بقوله: القرار يعني أننا نسبح ضد التيار, من الضروري المضي قدما في تشجيع هذه الشركات حتي تزيد من استثماراتها أكثر وأكثر وحقيقة أجد كثيرا من الالتباس في طلب السيد قباني استمرار دعم الدولة لشركات الإنترنت, لأن هذا الدعم قدمته الدولة حينما كانت هذه الشركات ناشئة وفي بدايتها قبل أكثر من ثماني سنوات, وكانت ساعتها تحتاج نوعا من الرعاية حتي تصل لمستوي الاعتماد علي النفس, وهو دعم يعرف الجميع أنه طاريء ومصيره إلي زوال, لأنه ليس من المنطق ان تستمر الدولة في دعم هذه الشركات أو غيرها إلي الأبد, خاصة بعدما تعثر وسقط منها ما سقط, ونجح واستمر من استمر. والآن وبعد آن آلت ملكية شركات الإنترنت الناجحة لشركات المحمول يتعين أن يتوقف هذا الدعم وفورا, لأن دعمها يعني دعم شركات المحمول التي تحقق أرباحا صافية لا تقل كل عام عن80% من رأسمالها الأصلي وربما أكثر, فضلا عن أن شركات المحمول كانت قبل الشراء تعلم جيدا أن هذه الشركات مدعومة بصورة أو بأخري من الدولة, وأن هذا الدعم مؤقت وسيلغي, وبالتالي كان عليها أن تفكر في ذلك قبل الشراء, وتتخذ قرار الشراء أخذا في الاعتبار أن الدعم سيتوقف إن عاجلا أم آجلا, وثانيا أنه من المفترض أن شركات الإنترنت نفسها نضجت ولا يجب أن تتلقي رضعة من الدولة أكثر من ذلك. ثمة نقطة أخري استوقفتني في موقف السيد قباني من هذه القضية, ففي حين أن الرجل استعرض عضلاته وتحدث إلي الدولة بنكهة العجرفة في قضايا التخطيط والترقيمات والتحويلات المالية, عاد في هذه القضية وطلب من الدولة استمرار الدعم أو الرضعة التي تقدمها الدولة لشركات الإنترنت التي استحوذت شركات المحمول علي ملكيتها, ولا أعرف بالضبط كيف يمكن الجمع بين استعراض العضلات مع الدولة في قضية, وطلب الرضعة منها في قضية أخري, ولا تفسير لذلك سوي الرغبة في المصمصة قدر الاستطاعة من الدولة, تارة بالعضلات وتارة بالرضاعة. في مقال سابق تحدثت عن الحرفة والفكرة لدي مديري شركات تكنولوجيا الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مصر, وقلت أنه باستثناء عثمان سلطان أول مدير تنفيذي لشركة موبينيل فإن شركات المحمول الثلاث لم تقدم لنا حتي الآن مديرين يتجاوزون حرفة إدارة وتشغيل الشركات إلي كونهم حملة أفكار وأصحاب إبداع يسكن عقولهم ويحكم تعاملاتهم مع مجتمعهم, وها هي تصريحات السيد قباني تضع بين أيدينا نموذجا لمدير تطغي لديه الحرفة علي الفكرة إن لم تكن تمحقها محقا, حتي أن حرفيته في الإدارة صورت له فيما يبدو أن الستة وعشرين مليونا من المشتركين في شبكة موبينيل ليسوا زبائن وعملاء ومواطنين يقوم هو علي خدمتهم, بل ميليشا تحت إمرته, أو أعضاء في حزب فاشي هو زعيمه الملهم, ومن موقع القائد لهذه الملايين التابعة الخاضعة راح يخاطب الدولة خطابا تفوح منه العجرفة. في النهاية أقول أنه من الوارد ومن حق أي شركة أو كيان أن يختلف مع الدولة أو أحد إجراءاتها أو مؤسساتها فيعلن رأيه أو يعرض وجهة نظره, ويستميت في الدفاع عن مصالحه لدي الدولة بطريقة لائقة ومقبولة, لكن من غير المقبول أن يعرض مسئول شركة ما وجهة نظره ومطالب شركته بخطاب نكهته العجرفة واستعراض العضلات والمن علي الدولة والناس والمجتمع.