المسافة بين الفكرة وتنفيذها في المجتمعات المتقدمة تقاس بالأيام أو الأسابيع أو الشهور, أما لدينا فهذه المسافة تقاس بالسنوات الطويلة وأحيانا بالمائة عام وأكثر بدليل أننا ما زلنا حتي الآن نسعي ونكابد لتحقيق بعض من الأفكار والرؤي التي كتبها الإمام محمد عبده مثلا في جريدة الوقائع المصرية منذ مائة وثلاثين عاما! دورة تحول الفكرة إلي فعل في مجتمعاتنا دورة طويلة بطيئة كسول تحتاج إلي تفسير عميق ثقافي واجتماعي وربما نفسي أيضا. من السهل لمن يتأمل المجتمع المصري أن يكتشف أنه لا تنقصنا الأفكار الهامة والجديدة وأحيانا العبقرية. فلدينا كثير من الكتابات الجادة المتعمقة التي تطرح حلولا لمشاكلنا وأزماتنا.. لدينا مؤسسات ومراكز أبحاث.. توصيات ومؤتمرات لا تنقطع.. دراسات وتقارير وأبحاث تحتشد بأفكار جديدة. يكفي أن نقرأ تقارير المجالس القومية المتخصصة لنكتشف أننا أمام كنز مخبوء من الأفكار. يكفي أن نطالع بيانات وأرقام وتحليلات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار لنحصل علي تشخيص شامل ودقيق لواقع مجتمعنا في شتي المجالات.. يكفي أن نتابع إحدي ندوات مكتبة الإسكندرية وغيرها من المؤسسات الثقافية والفكرية لنتعرف علي حلول ورؤي للكثير من قضايانا. السؤال المؤرق هو كيف أن كل هذه الأفكار لم تتحول بعد إلي أفعال تغير واقع مجتمعنا؟ ولماذا تبدو دورة تحول الفكرة إلي فعل في المجتمع المصري طويلة ومتعثرة إلي هذا الحد؟ هل نحن نفتقد الهمة أم هو الخوف من الإصلاح والتحديث؟ يتساءل المرء أحيانا لماذا كان علينا أن نتردد ونتباطأ في تنفيذ مشروع عملاق مثل مشروع مترو الأنفاق لمدة ثلاثين عاما فيتم تنفيذه في أواخر الثمانينات مع أن دراساته كانت أعدت منذ نهاية الخمسينيات؟ فكان أن تضاعفت ميزانية تنفيذه كثيرا. وكيف يكون لدينا كل هذه الدراسات لتطوير منظومة التعليم في مصر لكن التنفيذ يمضي مترددا وبطيئا وكأنه يخشي من أمر ما غامض لا نعرفه ؟! لماذا تأخرنا سنين طويلة في الإقدام علي بعض الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي ثبت جدواها ولو نسبيا فيما بعد؟ إلي متي نتجاهل الأفكار والدراسات التي طرحت لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح عبر كل هذه السنين الطويلة حتي وصلنا إلي هذا المأزق؟ هذه, وغيرها, مجرد أمثلة لسمة تفكير ونمط سلوك يحتاجان إلي تفسير يسهم في دفع وتيرة الإصلاح في حياتنا. ربما تتباين أراؤنا ما بين التفسير السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي لإشكالية الفكرة والفعل في المجتمع المصري وربما العربي علي وجه العموم. لكن المؤكد أننا نفتقد الهمة علي نفس هذه الأصعدة الثلاثة. لدينا مقولات وحكم بليغة نرددها مثل مقولة' رب همة أحيت أمة' لكن سلوكنا يبدو أقل بكثير مما نلوكه من حكم وشعارات. والقصة التي نرددها حول تعليق المندوب السامي البريطاني في مصر زمن الاحتلال علي أغنية للمطرب عبده الحامولي لا تخلو من طرفة ودلالة عميقة. فقد كان المطرب القديم يردد في إحدي أغنياته عبارة' حبيبي راح مين يا ناس يجيبهولي' فما كان من المندوب السامي البريطاني إلا أن علق ضاحكا وبالتأكيد ساخرا وهو يقول حتي المحب العاشق لديكم يريد أن يبقي ساكنا في مكانه منتظرا أن يساعده الغير في إعادة حبيبه إليه!! العجيب أن الشعب المصري أثبت في مراحل كثيرة من تاريخه همة وجسارة تثيران الإعجاب. ولا يمكن تفسير بناء الأهرامات وحفر قناة السويس وتشييد السد العالي وإنجاز عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف في حرب أكتوبر1973 ومنجزات أخري إلا بفضل ما تحلي به المصريون من همة وقدرة علي التنفيذ. من هنا يظل السؤال مطروحا أين ذهبت همة المصريين ؟ ثمة تفسير ممكن آخر لبطء تحول الفكرة إلي فعل في مجتمعنا هو الحذر المبالغ فيه الذي يصل أحيانا إلي حد الخوف من خوض مغامرة الإصلاح حتي أصبحنا نؤثر الحلول بالقطعة علي التصدي لجذور المشكلة أو الظاهرة. ونفضل الدوران حول مشاكلنا بأكثر مما نحاول اختراقها. ومن يتأمل بطء وتردد عملية الإصلاح التعليمي في مصر يكاد يصل إلي اقتناع مؤداه أن بعض المسؤولين يفضلون في هذا الإصلاح التعليمي أساليب طب التجميل مع أن المفروض هو إتباع منطق طب الحالات الحرجة! ربما يكون لدينا قلة من المسؤولين الإصلاحيين القادرين علي اتخاذ قرارات إصلاحية شجاعة في مجال عملهم لكن معظم المسؤولين يبدون وكأنهن يهربون من تبعة الإصلاح. سمة هؤلاء أنهم يفضلون ترحيل وإرجاء المشكلات الكبيرة واستحقاقات الإصلاح الحقيقي لمن سيأتي بعدهم. ثم يأتي المسؤول اللاحق ليفكر بالطريقة ذاتها فيتجاهل بدوره جذور المشكلة وموطن الخلل الحقيقي تاركا ذلك للشخص المجهول الذي سيحل محله يوما ما. وهكذا تمضي الأمور حيث تتقدم اعتبارات الحفاظ علي المقعد الوزاري أو المنصب علي متطلبات الصالح العام وخوض معارك الإصلاح والتطوير بحيث أصبح لدينا ثقافة للعمل الحكومي والتنفيذي يمكن أن نطلق عليها ثقافة إيثار السلامة! لعل هذا ما يفسر لنا كيف يكون لدي الوزراء والمسؤولين هذا الكم الهائل من الدراسات والأفكار والحلول التي يجمع عليها العلماء والخبراء وتؤكد تجارب الدول الناجحة علي نجاعتها ثم يخشون من الاقتراب منها ويتجاهلون تطبيقها. هل هي ثقافة الخوف الإداري التي تراكمت عبر السنين فجعلت الإقدام مرادفا للتهور والإصلاح يعني الحماقة ؟ والواقع أن هذا السلوك لا ينفصل عن ظاهرة مجتمعية تخص عموم الناس هي الميل الواضح إلي الكلام علي حساب الفعل, الأمر الذي يكاد يصبح سمة جماعية اشتهر العرب بها. ولعل التعبير الشهير' العرب ظاهرة صوتية' يعكس جانبا من الحقيقة علي الرغم من مرارته وما فيه من تعميم غير منصف. ويبدو أن الظاهرة الكلامية أو الصوتية لدينا ظاهرة قديمة لم تتغير علي مدي السنين. فها هو الإمام محمد عبده مثل كثيرين غيره يكتب منذ مائة وثلاثين عاما مقالة بعنوان' ما أكثر القول وما أقل العمل' في جريدة الوقائع المصرية في يناير.1881 يقول محمد عبده إن' الوصف يوجد في كثير من أهالي بلادنا بل في الغالب منهم لكن لا يوجد القائل الفاعل إلا قليلا جدا وإننا نخجل من تسجيل ذلك في الجرائد ولكن أي فائدة في إخفاء عيب فينا عرفه الغير عنا فحق علينا أن نذكر به لعلها تنفع الذكري'. كلام الإمام محمد عبده يقدم لنا بعد مائة وثلاثين عاما دليلا آخر إضافيا علي بطء وطول دورة تحول الفكرة إلي فعل في حياتنا. فمن العجيب أن أفكاره المستنيرة وأفكار غيره من الرعيل الأول لجيل النهضويين المصريين لم يكتب لها أن تتحقق علي مدي هذا الزمن الطويل وما زلنا حين نتحدث عن النهضة في القرن الحادي والعشرين نستحضر أفكاره التي قيلت في القرن التاسع عشر, وكأن الزمن قد توقف لدينا طوال كل هذه السنين. المزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم