في هذه الأيام تمر الذكري الثالثة عشرة علي رحيل العلامة محمود شاكر.. هذا الراحل عرفناه موقفا صلبا ضد فساد الحياة الثقافية, وفكرا يقظا في النظر إلي الأشياء, ومنهجا نادرا في النقد, ونمطا شامخا في الشعر, ونموذجا متميزا في تحقيق التراث. وأسلوبا دقيقا في الترجمة, ومرجعا متفردا في الحضارة العربية الاسلامية, هو بأجمعه فوق راحة اليد: أعمال ومواقف, دراسات وأبحاث, قصائد وترجمات, كلها كالمناجم التي ربما تسلم كنوزها جيل آخر أشد عدلا, وأنفذ بصيرة, وأكثر إنصافا.. جيل يدرك جوانب في شخصية هذا الراحل منها حجم المآسي التي تعرض لها وأولها حين التحق بكلية الآداب عام1925, حدث التحول الأكبر في حياته, وذلك عندما ألقي أستاذه طه حسين محاضرات موضوعها الشك في صحة الشعر الجاهلي, وتأتيه آراء أستاذه في هذا الشعر الذي أحبه وأدمنه كالدق إلي جانب الاذن. لكن رغم ذلك يستمع إليه كبقية زملائه من طلاب السنة الأولي بقسم اللغة العربية استماع من طب لمن حب. إلا أن هذه الآراء المفاجئة تستقر في رأسه حينا, من بعده تتحول إلي مفرقعات سرعان ما تنفجر فيكون هو أول ضحاياها, ويصبح أمام خيارين, إما أن يبقي بالجامعة ويوافق علي ما لا يقتنع, أو يترك الجامعة مفضلا التمسك بما يراه أنه الحق, ويختار الأمر الثاني نافضا من عمره عشر سنوات قضاها في الغربة, من بعدها ينشر كتاب المتنبي عام1936, لكن بعده بعام ينشر طه حسين كتابه مع المتنبي, ويحتج محمود شاكر, ويجترئ علي أستاذه ويكتب آراء وملاحظات غاضبة تغطي ست عشرة مقالة في صحيفة البلاغ, وينشط اخوان السوء, فيزداد الخلاف بين الاثنين, ويصبح سافرا وتكون نتيجته محو كتاب محمود شاكر من الذاكرة الثقافية, ولا تعرف الأجيال له كتابا عن المتنبي إلا بعد أربعين عاما, بعد إعادة طباعته.. كان ينبغي والامر كذلك أن تكون هذه المعركة التي خرج منها خاسرا درسا قاسيا من بعده يكف عن المعارك, ولكنه لم يكف وواصلها مع عدد من المفكرين منهم أحمد أمين, وعبدالعزيز فهمي, وزكي مبارك, وتوفيق الحكيم وسلامة موسي وبشر فارس, وسيد قطب ولويس عوض, ومحمد مندور, وعبدالرحمن بدوي وغيرهم.. وفي واحدة من هذه المعارك يضار في رزقه, ويهدد في أمانه, ويهدر في كرامته حيث تضرب حوله السدود والقيود, ويذوق مرارة الحرمان من الحرية, حيث يعاقب بلا ذنب, ويحاكم بلا قضاة, ويسجن بلا جريمة, ليقضي سنوات يجتر خلالها آلام الشيخوخة والمرض, ومعها إحباطات الجحود والتجاهل, ويخرج من سجنه حزينا مكسورا ليس علي ما آلت إليه أحواله, وإنما علي ما آلت إليه أحوال مصر بعد هزيمة1967, ولا يعبأ بعزلة فرضتها عليه قلة متعاملة في بلاط صاحبة الجلالة, علي رأسهم كبيرهم الأوحد, فيستكين إلي العزلة وتستكين إليه, ويصبح مألوفا أن تسأل عنه من يعرفه فلا يعرفه, والطامة الكبري كانت في تجاهل أعماله, وفي مقدمتها الشعرية مع أنه كان شاعرا له من مقومات العبقرية الشعرية الشيء الكثير, وناقدا فذا له ذائقته النقدية النادرة, وكاتبا كتاباته قذائف موجهة لا تخطئ الهدف, وباحثا مدققا يفكر دهرا قبل أن يخط سطرا, ومترجما له وجوده الحقيقي في صفحات المقتطف والرسالة والثقافة والمختار.. ومعلما حصيفا مع أن واقع الحال لا ينبئ عن ذلك إذ لم يسبق له أن عمل في أي وظيفة من الوظائف, إلا أن الذين يعرفونه يشهدون له بالفضل العلمي في مصر وغيرها من أقطار الأمة العربية, فبيته كان ملتقي لكل باحث, ومكتبته كانت مرجعا لكل دارس, وتوجيهاته العلمية خدمت الكثيرين من أصحاب الدرجات العلمية.. لكن في واحدة من هذه اللقاءات المنزلية كانت مأساته حيث اتهم باتهامات سياسية أودعته السجن كما أشرنا منذ قليل. لكن علي الرغم من ذلك بقي عاشقا للكلمة العربية الأصيلة.