ظهرت السيدة مريم العذراء( عليها السلام) أو لم تظهر, إلا أنها, برمزيتها وقداستها عند المسلمين والمسيحيين, قد كشفت ما أصاب الناس من عصاب جماعي يتوسل في ظهورها الأسطوري الخلاص من المتاعب والأوجاع. وليتها ظهرت لتشفي الكثيرين من الهستيريا التحولية, الناجمة من الصراع اللاشعوري بين دوافع متعارضة, فالمرض العصابي محاولة لتحقيق التكيف, وخفض القلق والتوتر من المخاوف الغريبة, والحصر النفسي, والأفكار الثابتة, والشك والوساوس, والهواجس, والاندفاعات القهرية, كما يصفه علماء النفس. التوسل بالقديسين وأولياء الله الصالحين, ما هو إلا إلغاء الحد الفاصل بين الحقيقة والأسطورة, والعقل والخرافة, والعلم والشعوذة, ولو ظهرت العذراء لطالبتهم بحل مشاكلهم بأيديهم وكفاحهم, من أجل الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي, ووضع الحدود بين الأفكار والمفاهيم, فلا يتم استخدامهم لمصالح لا تخصهم, والسعي وراء الخرافة والوهم, لا الحقيقة والفعل والحركة, وتجاربنا وتجارب غيرنا أثبتت أن فأرا متحركا خير من أسد رابض, وأكاد أسمعها في ضميري وهي تقول بغيظ.. اعملوا علي مكانتكم! والمجتمع العربي يحتاج إلي إصلاح بنيوي بتفعيل المؤسسات الاجتماعية الحالية, وإقامة أخري, ليظهر من خلالها ركائز اجتماعية من النخب العاقلة العلمية المحايدة كفيلة بتحقيق التقدم الاجتماعي, وليس العكس, أي بإيكال مهمة التقدم علي النخب الثقافية والفكرية والعلمية, وهي موجودة علي أي حال في مختلف الجماعات, إلا أن دورها وتأثيرها لن يظهر ويفعل إلا من خلال مؤسسات اجتماعية مستقلة, تحد من سلطة الدولة, فلا تجور الدولة علي إرادة المجتمع, وأيضا لا يتفكك المجتمع بدولة حاكمة ضعيفة, وليست صاحبة قرار شرعي, يستمد قوته من إرادة المجتمع, الذي أتي بها إلي السلطة, فقوة سلطة الدولة من قوة المجتمع الذي أنتجها. وقوة المجتمع تحميها نوعية الدولة التي توجه سياستها لخدمته, وكلاهما يحد من سلطة الآخر, وتنشأ الأزمة عندما يجور أحدهما علي الآخر, وفرض القطيعة ما بين الشعب وسلطة الدولة كما يحدث في دول العالم الثالث, التي لم تستقر فيها مؤسسات اجتماعية قادرة علي الحفاظ علي إرادة الشعب, أو عندما تجور أحيانا تلك المؤسسات مستغلة تأييد قسم من الجمهور لإثارة القلاقل, ورفض سلطة الدولة, مثلما شهدنا بعد الانتخابات الإيرانية, فالمعارضون لا يعبرون عن أفراد, ولكن عن تيار اجتماعي قوي احتضنهم ودافع عنهم. فلا نخب بدون مؤسسات اجتماعية, ولا تقدم وتحقيق مصالح بدون نخب عاقلة منفتحة علي ثقافة العصر العلمية العملية! فمن الناس وإلي الناس تجتهد النخب الثقافية, ولا تفعيل لدورها بدون مؤسسات اجتماعية, تحد بعضها بعضا, للتعبير عن مصالح الفئات التي تنتمي إليها, وتحد من سلطة الدولة والقائمين عليها. فإقامة الحدود.. تلك هي المسألة علي طريق التقدم وحل المشكلات, وتحمل الجميع للمسئولية وفق قواعد متفق عليها, يرضي ويدافع عنها المهزوم قبل الفائز, لأن هذه القواعد المؤسسية كفيلة بأن تجعله فائزا في جولات أخري, فهذه الحدود تحمي الجميع وعند رفع الحدود التي تقيد السلطة انزلقنا إلي الاستبداد, وعندما ترفع الحدود عن المؤسسات الاجتماعية انزلقنا إلي الفوضي! وعند تنظيم المجتمع في مؤسسات يصعب تحريكه طائفيا أو سياسيا, كما يحدث في لبنان, أو في الأزمة المختلة بعد مباراة مصر والجزائر. فتنظيم المجتمع في مؤسسات تحتضن الأفراد, يؤدي لظهور الروح الفردية الواعية بواجباتها وحقوقها وحقوق غيرها, وتتشكل في هذا المناخ النخب القائدة الناتجة من هذه المؤسسات التي تحتضن مثل هؤلاء الأفراد المستقلين, فتتواري القيادات الطائفية التي تخاطب الغرائز الدينية, وأيضا الانتهازية السياسية, التي تتحولق حولها مجموعة أصحاب المصالح القادرين علي التزييف والتزوير, في ظل جمهور خامل مستبعد, فإن كانت تعرف الشعوب من نوعية نخبها, فأوقع أن تعرف من طبيعة مؤسساتها الاجتماعية, المنتجة والمساندة لهذه النخب القادرة علي شرح التعقيدات ولا تتحول النخب إلي زعامات كاريزمية مهما أوتت من ذكاء وتضحيات, لأنها يجب أن تتعرض دائما للتقييم من المجتمع الواعي وأفراده النقديين, فلا تتحول إلي أساطير مستبدة, فعندما تنتفي حدود تقيد سلطة الزعماء يفسدون ولو كانوا قديسين, فالسلطة المطلقة في أي مجال.... مفسدة. ويعتبر الجانب الاقتصادي من صناعة وتجارة من أهم النظم الاجتماعية تأثيرا في النظم الاجتماعية الأخري سياسية أو دينية وحتي عائلية, وتقوم الدولة بالفصل بين المنتجين والمستهلكين, وتنظيم سلوكيات الشركات, وتعظيم الرغبة في الاستثمار, ومنع الاحتكار, والحد من الفجوة بين الأغنياء والفقراء, فمهام الدولة ومحتوي وإطار دورها من إنتاج المجتمع المنتظم في نظام اقتصادي راسخ, ووفقا لمصالح المجتمع كله, لذا نري أن النظام الاقتصادي يختلف من دولة لأخري, وليس قوانين صماء, وعندما أرادت أمريكا احتواء الدول المهزومة بعد الحرب العالمية الثانية, ومواجهة النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي, أقامت مشروع( مارشال) والبنك وصندوق النقد الدوليين لمساعدة المانيا واليابان, لتسريع حركة التاريخ وبناء اقتصاد قوي يضمن استقرارا اجتماعيا بإمكانه مواجهة المد الشيوعي, حتي أصبحا من القوي الدولية العظمي بعد عقود قليلة, وإذا كان ما فعلته لليابان والمانيا لمواجهة الشيوعية أفادهم جميعا, إلا أنها مع العالم الإسلامي لنفس الغرض احتضنت التيارات المتطرفة المنغلقة, وحاربت بقوة الحركات التحررية الشعبية المعبرة والعاملة علي مصالح شعوبها, بالإضافة إلي فرض البنك والصندوق الدوليين نظاما رأسماليا متطرفا, دون توافر مقدماته الطبيعية, فتقلص إلي حد الإلغاء دور الدولة اجتماعيا, بحرق مراحل التأهيل لهذا الإلغاء اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا, فانتشر الفقر, واكتفي قادة الدول العشرين في اجتماعهم الأخير بالإشارة إلي4 مليارات نسمة في العالم غير مزودين برؤوس الأموال والتكنولوجيا, وغير مندمجين في الاقتصاد العالمي. ما فعلته أمريكا للدول المهزومة بعد الحرب العالمية يعادل ما فعلته (أفروديت) لبيجماليون فنفخت في التمثال الكامل الجمال ليصبح عروسا جميلة, بينما بالنسبة للعالم الإسلامي والعربي, نفخت في( غول) الفقر والتطرف, الذي إذا ضربته أول مرة مات, وتكرار الضرب يحييه ويقويه أكثر وأكثر حسب الأساطير العربية القديمة ويتحقق ذلك في العصر الحديث, وإقامة الحدود للفقر والتطرف لن يقيمها الكلام والخطب البليغة للرئيس( أوباما) ولا قوته العسكرية, ولكن في إعادة تنظيم المجتمعات لتنتج ما يناسبها من بني اجتماعية تحد بعضها بعضها, فلا يتوغل طرف علي آخر فيفسد المجتمع, ولولا دفع الله الناس بعضهم بعضا لفسدت الأرض صدق الله العظيم.