أحاول في مقالات الرأي التي أكتبها أن أنسي التخصص لأكون علي تماس مع القضايا العامة التي تهم أكبر قدر من القراء, وأغبط زملاء ينتمون هم أيضا إلي هذا المجال يقصرون مقالاتهم علي الجوانب الأدبية. ولهذا فمعالجتهم للقضايا الأدبية لا تعتبر حديثا تخصصيا مثل الحديث عن الموضة, أو عن الطبخ, أو عن السيارات أو غيرها من مواضيع تهم فئة دون أخري, وإنما شأن عام, وخير مثال علي ذلك مقال نشرته الأهرام أخيرا للأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي يتحدث فيه عن الشعر باعتباره ضرورة لحياة البشر إنتاجا واستقبالا بعنوان ليس ترفا.. إنه ضرورة, وطبعا أشارك الشاعر الكبير هذا الرأي, وأتوق مثل بقية الأدباء إلي أن يصبح استهلاك الأدب بكل ألوانه, والفنون بكل أنواعها شأنا عاما لما للآداب والفنون من أهمية في حياة البشر, وإثراء الوجدان الإنساني, ومع ذلك أتعامل في مقالات مع القضايا العامة التي لها طبيعة تهم كل الناس دون أن أتحرج أحيانا من مقاربة الجوانب الأدبية, كما سأفعل في هذه المرة وأنا أتناول مؤتمرا دعتني إليه الجزائر بمناسبة المهرجان المسرحي السنوي الذي تشهده العاصمة الجزائرية في مطلع الصيف من كل عام, وهو مؤتمر أدبي يرافق فعاليات المهرجان حول توظيف الفن الشعبي في المسرح. كانت المحاضرة التي أسهمت بتقديمها تتصل بتجربة شخصية عن مسرحيات كتبتها واستقيت أحداثها وشخصياتها ومناخاتها من الفولكلور الليبي, مقتديا بما فعله رواد عرب في هذا المجال مثل أستاذ الأدب المسرحي ورائده الأكبر توفيق الحكيم عندما استقي أحداث إحدي مسرحياته المبكرة من أسطورة ألف ليلة وليلة وهي مسرحية شهرزاد, واستقي مسرحيات أخري من التراث العربي, والنص القرآني مثل أهل الكهف واستقي أحداث السلطان الحائر من التراث التاريخي في عهد المماليك, واغترف بعض أعماله من التراث الشعبي مثل ياطالع الشجرة. علي هذا المنوال نسج كتاب آخرون من مختلف الأقطار العربية لا يتسع هذا الحيز لاستعراض تجاربهم, إلا أنهم يشتركون جميعا في أنهم وجدوا في التراث الشعبي, والتراث العربي, باعتبارهما مخزون الخبرة البشرية لشعوبهم, مصدرا لا ينضب ولا ينفد لإلهامهم, وتخصيب مواهبهم, وإعطائهم مادة لإبداعهم, وفتح آفاق رحبة واسعة للاعتماد عليها في إعطاء لون ونكهة شعبية لنصوصهم المسرحية, ومنح هوية عربية لهذا الفن, وباعتباري كاتبا مسرحيا وممارسا للعملية المسرحية إخراجا وتمثيلا وتدريسا, ومسكونا بهاجس التجديد والتجريب والمساهمة في تعميق الهوية العربية لمثل هذه الفنون التي استوردناها من ثقافات أخري, فقد تعددت تجاربي في كتابة المسرحيات المستقاة من منابع شعبية, كانت آخرها ثلاث مسرحيات قصيرة اخترتها لتكون موضوعا لهذه المحاضرة, التي ترصد التطبيق العملي لفكرة توظيف التراث, أي دراسة حالة لثلاثية مسرحية بعنوان العرس, استقيتها من تقاليد الأعراس البدوية, في ليبيا, وأعتقد أن لهذه التقاليد امتدادا في الصحراء الغربية لدي قبائل أولاد علي المصرية, وهذا التقليد هو ما يسمي العراسة, وهو الاسم الذي يطلق علي جماعة من أصدقاء العريس يلعبون لعبة تستمر لسبعة أيام, تقوم علي تأسيس دولة وهمية, لها أركان الدولة التقليدية المعروفة في التراث, يقوم فيها العريس بدور رئيس هذه الدولة ويسمي السلطان, ويقوم بتنصيب أعوان له من بين أعضاء المجموعة, يأتي في مقدمتهم الوزير, وهو الرجل الثاني في الدولة, المسئول عن تنفيذ أوامر السلطان ثم القاضي وصاحب الشرطة, ويقوم بقية الأعضاء بأدوار تكميلية أخري, ومن وحي هذه الصيغة الفولكلورية الشعبية للمسرح الارتجالي, قمت بصياغة ثلاث مسرحيات سميتها ثلاثية العرس, تبدأ بمسرحية كبير البصاصين عندما يصبح أمن الدولة هاجسا يسطر علي سياسة البلاد ونظام الحكم فيها, ويتحول من جهاز يعمل في خدمة الدولة إلي جهاز يسيطر عليها, وبدلا من أن يتسلم تعليماته من الحكومة الشرعية للبلاد, ويخضع في سياسته للفلسفة أو الاستراتيجية العليا التي ترسمها, يحدث العكس فيكون هو الذي يصدر التعليمات, ويرسم السياسات, ويضع نفسه مرجعية عليا لها, فيحدث عندئذ مسخ وتشويه للمفاهيم والنواميس التي تحتكم إليها الدولة, مما يؤدي إلي خرابها, ودمار مؤسسات الحكم فيها, وعلي هذا المنوال تمضي بقية المسرحيات حيث يتحول اللعب, وهو الهدف الذي تتوخاه العراسة, إلي جد, ويتحول الهزل الضاحك إلي حدث مأساوي. وهذه الثلاثية المستوحاة من تقاليد العرس في ليبيا ليست إلا صورة لما أردت أن أفعله مع جوانب أخري من التراث حاولت توظيفها في مسرحيات درامية, وأخري استعراضية غنائية, توخيت أن تسهم في إثراء وإغناء التجربة المسرحية العربية, وإضافة شيء من ذاتنا وثقافتنا عليها, وإلباسها لباسا له طابعنا وخصوصيتنا الحضارية. [email protected]