الحق بدت فرحته لا حدود لها عندما ابلغوه أن نحو24 قناة تليفزيوينة نقلت كلمته أمام الهيئة البرلمانية لحزبه علي الهواء مباشرة. وفي اليوم التالي كانت مانشيتات الصحف- خصوصا المقربة من الحزب الحاكم- تزف لقرائها تحذير رئيس الحكومة التركية للدولة العبرية بالكف عن عربدتها, وأنه لا سبيل أمامها سوي الاعتذار العلني علي هجومها البربري والذي استهدف قافلة شريان الحياة وفي مقدمتها سفينة الحرية. وحتي يكتمل مشهد الظفر والنصر المبين والذي جاء في يونيه شهر الذكريات الأليمة للملايين من أبناء الامة العربية نقلت وسائل الاعلام المحلية مظاهرات غضب اجتاحت بلاد العرب من المحيط للخليج وكذا بعض بلدان شرق اسيا وهي تحمل صور رجب طيب اردوغان, لكن الاخير ومعه معاونيه لم ينتبهوا إلي أن نفس الجماهير سبق ورفعت صور صدام حسين غير أن نشوة السعادة غشت الابصار, فموكب الزعماء دشن أمام أردوغان كي يعيد مجد الأمبراطورية العثمانية وذكري الباديشاه عبد الحميد الثاني الذي كان عقبة كؤود أمام هجرة اليهود إلي أرض فلسطين نهايات القرن التاسع عشر. وبما أن الرئيس عبد الله جول أكد أن علاقات بلاده لن تعود أبدا إلي ما كانت عليه مع إسرائيل فكان طبيعيا أن تشهد الحياة السياسية دعوات طالبت بقطع العلاقات مع تل ابيب واتخاذ موقف واضح من حلف الناتو, فإن لم يكن بالانسحاب منه فعلي الاقل تجميد عضوية تركيا فيه. وهكذا جاءت بعض الاقلام تعقد المقارنات وتضع تركيا أردوغان في الالفية الثالثة وفرنسا ديجول أبان حقبة الستينيات من القرن المنصرم في مرتبة الابطال, فكلاهما قاوم الهيمنة, ديجول داعيا إلي اسقلالية القرار الفرنسي بعيدا عن الولاياتالمتحدة وأردوغان مناهضا للصهيوينه, ويالها من مفارقة, فالذين كتبوا مدحا في ديجول غاب عنهم أن ما اعتبروه نموذجا ومثالا كان لا يطيق الاناضول قائلا عبارته الشهيرة' ما لنا وهذا البلد التي ينتمي إلي الشرق المعقد'. ومضت الاحاديث علي مدي الساعة تعدد وحشية الدولة اليهودية وتنعي للشعوب في الوقت ذاته عجز الانظمة العربية التي وقفت موقف المتفرج باستثناء قطر بطبيعة الحال, وها هو أميرها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني يتوقف في العاصمة أنقرة ليقدم تعازيه الي شقيقه رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان في الشهداء الاتراك الذين سقطوا في العدوان الاسرائيلي علي اسطول المساعدات الإنسانية. إن المرء ليندهش من فرط السيناريوهات التي وضعها أهل الحكم هنا بشأن كسر الحصار المفروض علي غزة, فاسم تركيا سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه والفضل لحكومة العدالة بزعامة الباحث عن المجد طيب اردوغان, ولأن الاعداء لا يريدون له الاستمرار حتي يعيد القدس كي تكون عاصمة لفلسطين فلا بد إذن من تدابير إضافية ولهذا استوردت مديرية الامن العامة250 مسدس نوعSigSauer229 والتي يستخدمها رجال حماية الرئيس الامريكي اوباما. في المقابل كانت هناك أصوات لم تشأ أن تسير في زفة التنديد وتجييش العباد من أجل معركة وهمية متسائلة: لماذا تلك الحمية المفاجئة, هل جاءت لتغطي علي قضية الانقلاب المزعوم ضد الحكومة والتي بدأت معالمها الحقيقية شيئا فشيئا؟ فمعظم من تم القبض عليهم أفرج عنهم القضاء لعدم وجود ما يثبت تورطهم فيما نسب اليهم. وفي سياق السخرية تجاه الحاصل تندر محللون بكلمةoneminute في إشارة إلي واقعة دافوس الشهيرة مستهل العام الماضي وانسحاب اردوغان بشكل مسرحي إثر احتدام النقاش بينه وبين الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز, فمن وجهة نظرهم كانت تلك الواقعة بداية لتكريس إنجراف البلاد نحو الإعتدال وتبني مواقف كل من حماس وإيران فضلا عن دعم حزب الله, وكل هذا لايستقيم مع ثوابت الجمهورية التركية فعلي حد تعبير كولسن يلكيهان العضو البارز بحزب الشعب الجمهوري المعارض لايمكن تغيير توجهات تركيا من الغرب الي الشرق والابتعاد عن مبادئ مصطفي كمال اتاتورك مقابل الارتماء في افكار الرئيس الايراني احمدي نجاد ومن هم علي شاكلته. لكن اردوغان سيفاجئ الجميع بإنقلابه علي نفسه, فما قاله طوال الايام الماضية يجب أن يطويه النسيان ليس حرصا علي العباد والبلاد والحلفاء بل خشية من تراجعه وفقدانه رئاسة الحكومة وحلمه القادم في أن يكون رئيسا للجمهورية التركية, وهذا هو المجد بعينه الذي يبحث عنه فلا بأس إذن من قبول الاتصال بالدولة الإسرائيلية من خلال خطوة' صحيحة' طبقا لوصف وزير خارجيته أحمد داود اغلو, غير أن تسريب بعض من جوانب اللقاء السري الذي تم بين البلدين في العاصمة البلجيكية بروكسل كان بمثابة صدمة هائلة التي لم يتوقع أن تكون بمثل هذا الضجيج, زاد من صخبه ما قاله السفير الأمريكي في عيد إستقلال بلاده مرحبا بعودة الصديقين الحليفين لواشنطن إلي مائدة مفاوضات الصلح والتصالح, لكل هذا كان لابد من فرملة وعودة إلي التهديد والوعيد, وعلي اية حال فلن تغضب إسرائيل لانها ستتفهم الوضع بيد أنها لن تلح في طرح السؤال: متي يعلن عن عودة السفير التركي إلي تل ابيب؟