في التاسع والعشرين من شهر مايو الماضي نشرت الأهرام مقالا مهما للاستاذ الدكتور علي الدين هلال بعنوان هل تحتاج مصر الي مشروع ثقافي للنهضة. هذا السؤال الكبير الذي تصدر المقال كان دعوة واضحة لكل قطاعات وفئات المجتمع, وخصوصا مثقفيه للحوار والنقاش والبحث عن اسس وتصورات ورؤي اشمل لمشروع ثقافي وسياسي يبلور صورة واضحة لمستقبل مصر المنشود, وكنت قد قرأت المقال في حينه وعزمت علي الاجابة السؤال الذي طرحه استاذنا د.علي ولكن متابعة التطورات الداخلية والاحداث الاقليمية والدولية المتلاحقة والتعليق عليها حال دون ذلك, وهو امر جعلني احتفظ بالمقال واستعيد قراءته ومن ثم المشاركة في الدعوة التي وجهها د.علي لكل المصريين للمشاركة في الاجابة عن سؤاله الكبير والمهم. كعادة المفكرين والفلاسفة وبتواضعهم العلمي ايضا لم يشأ د.علي مع ايمانه بحاجة مصر الي مشروع ثقافي وسياسي للنهضة ان يجيب عن السؤال, او يضع شروطا له, او يقدم تصوره الخاص ورؤيته حول هذا المشروع, وفضل من خلال قراءة تاريخية وسياسية أن يبين احتياج كل الأمم في مراحل معينة من تطورها إلي مثل هذا المشروع, ليعيد صياغة أهدافها ويوحد صفوفها ويحفز قيادتها ويجدد الثقة في مستقبلها, ورصد من خلال هذه القراءة, محاولات المصريين, بناء مثل هذا المشروع الكبير علي مدي القرنين الماضيين, ويذكرنا د.علي بأن هذه المحاولات والتجارب كلها, كانت تلازمها أفكار ورؤي لإصلاحيين ولتيارات سياسية عديدة, أسهمت بدورها في تكوين العقل المصري الحديث, وفي دعوته للحوار, والنقاش والإجابة عن السؤال أوضح أن كل هذه التجارب والرؤي كانت نتاج عصرها وظروفها, وتأثرت بالواقع الذي نشأ في إطاره, وحتي لا تضيع المفاهيم عمد لتوضيح معني تعبير النهضة, كمفهوم حضاري متكامل يتجاوز المفاهيم المتداولة, فالنهضة, كما يقول د. علي, ليست فقط التنمية الاقتصادية, أو التحديث أو التغيير الاجتماعي, بل هي كل ذلك, فهي نسيج متكامل من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية, وهي حركة مجتمع بأسره, يتحرك صوب مثل أعلي ومستقبل أفضل. وفي سياق توضيح معني النهضة, يري أن مضمونها الفكري والأخلاقي يختلف من مجتمع إلي آخر, وهو هنا يحذر من نقل تجارب مجتمعات أخري, ويري أن مفهوم النهضة يتجاوز إبداع الفرد والمفكرين ورجال السياسة, وبرامج الأحزاب, فالنهضة ومفهومها خلاصة تجربة شعب في تفاعله مع الواقع, ونقطة انطلاق لحركته نحو المستقبل. ويحذر د. علي في إشاراته من خطورة فصل الماضي عن الحاضر, ويشدد علي أهمية النظر إلي تاريخ مصر بكل مراحله, من منظور التغيير والاستمرار, والتواصل والتجديد وكأنه يرد علي دعاة مخاصمة الماضي, ونسفه وعلي دعاة الأخذ بالماضي كله والغرق فيه, وهو ما أكده باستخدام تعبير التواصل والتجديد مع كل حلقات التاريخ المصري, ولأنه يتحدث عن مشروع للمستقبل, فإنه يرصد بعين المفكر السياسي والاجتماعي, التحولات المهمة التي تعرضت لها مصر خلال العقود الأخيرة, خصوصا في منظومة القيم وأساليب الحياة وشكل الخارطة الاجتماعية والسياسية, موضحا أن هذه التحولات لم تكن متناغمة أو متناسقة. وأفرزت هيكلا اجتماعيا غير واضح المعالم, مما عرض نسق القيم والمعايير لحالة من الاهتزاز, ومن خلال هذا الرصد يري د.علي أنه من الضروري أن نستفيد من هذه الخبرة التاريخية ومن تطورها في سياق معطيات المستقبل, ويدعو إلي أهمية معرفة كيف فهم المصريون معني النهضة محذرا من تكرار أخطاء التجارب السابقة, حيث ان عملية التطور الاجتماعي في مصر اتسمت بسمتين اساسيتين, أولاهما أن التطور لم يكن إلغاء للقديم وإنما تعايش مع الجديد في حين تطور كل منهما في مجاله وتصارعا أحيانا وتعايشا في أحيان أخري, وثانيتهما حدوث انقطاعات متتالية في مسار عملية التطور, وهنا تأتي أهمية الدعوة للاستفادة من تجارب الماضي, حيث يلاحظ د.علي أن هذه التجارب تعرضت لحالات ضيق الصدر أصابت القائمين عليها مع التوقع السريع لنتائج التجربة مع الانتباه لطبيعةأخطاء كل تجربة, حتي لا تتكرر عوامل فشلها سواء بأخطاء الداخل أو بضربها من الخارج, مما يجعلنا نعاود طرح المحاور والبدء في تجربة جديدة ببداية جديدة, دون الاستفادة من أخطاء الماضي. وتفاعل كل هذه السمات, أدي إلي استدعاء مختلف الأفكار والمفاهيم القديمة خصوصا في لحظات التحول مما جعل القديم يعيش معنا بشكل دائم وهذا ما يوجد مشكلة في التعامل مع المستقبل, فنحن مجتمع يعيش حاضرا يخترقه الماضي بأفكاره ورواسبه وأساطيره من كل جانب. لقد وضع د.علي الدين هلال يده علي معوقات مشروع النهضة مع تأكيده لاحتياج مصر لمثل هذا المشروع الثقافي والسياسي, يري أن مثل هذا المشروع يجب ان يطرح رؤية جديدة ومتكاملة لمستقبل مصر ويضع في الاعتبار ظروف العالم المتغير, ويتجاوز الأفكار الخاصة بإصلاح شامل يشارك فيه الجميع, يستند علي رؤية أشمل للتقدم والنهضة. لقد تعمدت أن أعيد قراءة دعوة د.علي الدين هلال, الذي لم يصادر حق الآخرين في وضع تصوراتهم حول هذا المشروع, وفتح الباب للجميع للمشاركة في الاجابة عن سؤاله, الذي سأجيب عنه بنعم.. نحن نحتاج لمثل هذا المشروع لكن ما هي شروطه وملامحه العامة وأسسه التي يجب ان ينطلق منها وكيف يمكن إيجاد توافق عام عليه؟ بهذا فان تفاصيل اجابتي ستكون في مقالي المقبل. المزيد من مقالات مجدي الدقاق