«التعليم العالي»: 87 ألف طالب يسجلون لأداء اختبارات القدرات    وزير الإسكان يوجه ببدء تطوير شبكات الصرف الصحي بمنطقة 15 مايو في الدقهلية    «المشاط» تدعو الشركات السويسرية للاستفادة من آلية ضمانات الاستثمار الأوروبية    مبعوث ترامب للشرق الأوسط يصل إيطاليا لبحث مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة    اندلاع اشتباكات مسلحة بين تايلاند وكمبوديا.. ومقتل 11 شخصا (تفاصيل)    صفقات ليفربول للموسم الجديد.. 5 لاعبين ب 375 مليون يورو    5 نجوم أشعلوا ميركاتو الأهلي ووضعوا الخطيب في مأزق (تقرير)    «مش زي غيره».. تعليق ناري من الغندور بعد رسالة مصطفي شلبي    مواعيد قطارات طنطا القاهرة والعكس اليوم الخميس 24 يوليو 2025    القاهرة تسجل 43 مئوية.. الأرصاد تكشف ذروة الموجة الحارة وموعد تحسن الطقس    فرقة العريش للفنون الشعبية تشارك في الدورة ال39 لمهرجان جرش    نتيجة الثانوية الأزهرية بمحافظة كفر الشيخ.. رابط مباشر    إنقاذ سيدة من محاولة إنهاء حياتها في حي كيمان فارس بالفيوم    كشف ملابسات مشاجرة فى القاهرة وإصابة أحد الأشخاص    كاميرون إسماعيل: شرف كبير أن أمثل منتخب مصر.. وحلمي التتويج بالألقاب بقميص الفراعنة    مدير الفريق الطبي المتنقل في غزة: طفل من بين كل سبعة يعاني من سوء تغذية حاد    بيان مشترك: مصر ودول عربية وإسلامية تدين مصادقة الكنيست الإسرائيلي على الإعلان الداعي لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة    معسكر كشفي ناجح لطلاب "الإسماعيلية الأهلية" بجامعة قناة السويس    "مدبولي" يؤكد أهمية بناء الوعي في تشييد حائط صد ضد نمو الشائعات    تخرج دفعات جديدة من المعينين بالهيئات القضائية والطب الشرعي بالأكاديمية العسكرية    "الجبهة الوطنية" يعقد أول لقاء جماهيري بالإسماعيلية لدعم مرشحته داليا سعد في انتخابات الشيوخ    تحليل رقمي.. كيف زاد عدد متابعي وسام أبو علي مليونا رغم حملة إلغاء متابعته؟    ثلاث مباريات تُشعل أجواء النسخة ال11 من دوري مراكز الشباب    منتخب جامعات مصر للتايكوندو يحقق فضية عالمية في ألمانيا    جامعة قناة السويس تُعلن نتائج الفصل الدراسي الثاني وتُقرّ دعمًا للطلاب    أسعار الأسماك والمأكولات البحرية في سوق العبور اليوم    ارتفاع أسعار الدواجن والبيض اليوم الأربعاء 24 يوليو 2025 بأسواق المنوفية    وزير الري يتابع جاهزية المنظومة المائية خلال موسم أقصى الاحتياجات    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال النصف الأول من 2025    جهود قطاع أمن المنافذ بالداخلية خلال 24 ساعة لمواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    بنسخ خارجية لمختلف المواد.. ضبط مكتبة بدون ترخيص في الظاهر    الداخلية تواصل حملاتها المكثفة لضبط الأسواق والتصدى الحاسم لمحاولات التلاعب بأسعار الخبز الحر والمدعم لتحقيق أرباح غير مشروعة    «خدمة المجتمع» بجامعة القاهرة يناقش التكامل بين الدور الأكاديمى والمجتمعى والبيئي    شهدت التحول من الوثنية إلى المسيحية.. الكشف عن بقايا المدينة السكنية الرئيسية بالخارجة    نقابة المهن السينمائية تشيد بمسلسل "فات الميعاد"    مهرجان الغردقة لسينما الشباب يطلق مسابقة للفيلم السياحي    «سعد كان خاين وعبد الناصر فاشل».. عمرو أديب يرد على منتقدي ثورة 23 يوليو: "بلد غريبة فعلا"    عمرو الورداني: النجاح ليس ورقة نتيجة بل رحلة ممتدة نحو الفلاح الحقيقي    لو لقيت حاجة اقعدها وقت قد ايه لحين التصرف لنفسي فيها؟.. أمين الفتوى يجيب    علي جمعة يوضح معنى قوله تعالى {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}    713 ألف خدمة طبية قدمتها مبادرة «100 يوم صحة» خلال أسبوعها الأول في القليوبية    "السبكي" يبحث مع "Abbott" نقل أحدث تقنيات علاج أمراض القلب    لماذا يستيقظ كبار السن مبكرا؟ إليك ما يقوله العلم    مصادر: سول تقترح استثمارات تتجاوز 100 مليار دولار بأمريكا في إطار محادثات الرسوم الجمركية    تفاصيل عملية دهس قرب بيت ليد.. تسعة مصابين واستنفار إسرائيلي واسع    «تطوير التعليم بالوزراء» وأكاديمية الفنون يطلقان مبادرة لاكتشاف وتحويل المواهب إلى مسارات مهنية    الدفاع الجوي الروسي يدمر 39 مسيرة أوكرانية    غدا.. تامر حسني والشامي يشعلان ثاني حفلات مهرجان العلمين    رئيس اقتصادية قناة السويس يوقع 3 عقود صناعية جديدة مع شركات صينية    محافظ أسيوط يقر مشروعات جديدة ومحورًا إستراتيجيًا لدفع التنمية    من اكتئاب الشتاء إلى حرارة الصيف.. ما السر في تفضيل بعض الأشخاص لفصل عن الآخر؟    إصابة 4 عمال إثر سقوط مظلة بموقف نجع حمادي في قنا.. وتوجيه عاجل من المحافظ- صور    مدنية الأحكام وتفاعلها مجتمعيًّا وسياسيًّا    وكان فضل يوليو عظيمًا    علي أبو جريشة: عصر ابن النادي انتهى    إيران تحذر مدمرة أميركية في خليج عمان.. والبنتاغون يرد    أعراض برد الصيف وأسبابه ومخاطره وطرق الوقاية منه    هل يجوز أخذ مكافأة على مال وجدته ضائعًا في الشارع؟..أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السيدة معصوبة العينين
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 06 - 2010

لا تزال جدارية النحت البارز فوق واجهة مبني مجمع المحاكم بشارع الجلاء بالقاهرة تطل من عليائها علي الجمهور كل يوم منذ عشرات السنين‏,‏ في شكل سيدة معصوبة العينين تمسك بميزان متكافيء الكفتين رمزا للعدالة‏. ولا تزال لوحة الرسم الجدارية الهائلة بألوان الفريسك في بهو المبني نفسه تستعرض مواقف الحكم بالعدل بين الناس عبر التاريخ‏,‏ يمر عليها كل يوم عشرات القضاة والمحامين‏,‏ ولعلهم جميعا قد نسوا وجودها من فرط تعودهم عليها‏,‏ وكأنهم صاروا معصوبي الأعين مثل رمز العدالة‏...‏ لكن شتان بين هذا المعني وبين ما نراه اليوم من صراع بين شقي العدالة وهما القضاء الجالس والقضاء الواقف‏,‏ فإذا كان الرمز للعدالة بسيدة معصوبة العينين يعني الإقصاء المطلق لأية نوازع شخصية وراء الأحكام من أجل العدل‏,‏ فإن ما نشهده اليوم يعني الإعلان المطلق للنوازع الشخصية والفئوية لرجال القانون‏,‏ ولو كان ذلك علي حساب ما كلفوا بتحقيقه‏..‏
غير ان هذا الموقف الغريب لم يعد استثناء في واقعنا‏,‏ إذ أننا نجد كل يوم ما يشبهه من صور الاحتقان والصراع وإعلاء المصالح الشخصية علي مصالح الوطن‏,‏ أو من صور انتهاك الحقوق الكبيرة للمجتمع بدم بارد علي أيدي أشخاص أو جهات أعمتها المطامع‏,‏ ما يمثل ظاهرة عامة منعكسة عن مناخ يكتسح البلاد‏,‏ وهو يحمل من عوامل التفجير والتجزئة للنسيج الوطني والمجتمعي أكثر من عوامل الالتئام والتوحد‏,‏ فإن سوء الظنون والنوايا تسبق حسنها‏,‏ إنك تجد هذا المناخ في القضايا العمالية كما تجده في القضايا الفئوية وحتي في القضايا المرفوعة ضد مثقفين ومبدعين‏..‏ في البداية كان الأمر يبدو وليد اهتزاز الثقة من جانب تلك الأطراف في بعض الأجهزة الحكومية مرتبطا بأزمات نوعية للفئات المختلفة تتمثل في ضياع حقوقها وعدم الاهتمام بمطالبها‏,‏ وغالبا ما يكون لنظرية المؤامرة دور فاعل في تغذية وتوجيه هذا المناخ‏,‏ بافتراض وجود تدبير مسبق ومخطط وراء كل أزمة‏.‏
في السنوات الأخيرة انتقل هذا المناخ ليصيب علاقات الأفراد من جميع الفئات الاجتماعية والمهنية ببعضهم البعض‏,‏ مرتبطا بحالة من التربص وسوء الظن في المعاملات والمواقف الاجتماعية‏,‏ وكاشفا عن تآكل روح التسامح بين المصريين‏,‏ التي كانت في الماضي تتيح الفرصة لتغليب الاعتبارات الأسرية‏,‏ فتخلخلت العلاقات حتي بين أقرب الأقرياء‏,‏ ما انعكس بالتالي في تضاعف أعداد القضايا المنظورة أمام القضاء باعتباره الملاذ الأخير للمظلومين‏,‏ والمناصر النزيه للحقيقة والحق‏.‏
لكن الأحداث الأخيرة في ساحات العدالة زلزلت اعمدة هذا الحصن بعد ان ظل علي مدي اكثر من قرن من الزمان شامخا ينأي عن أية صراعات أو اهتزازات إلا ما تمليه مصالح الوطن ودواعي الحق والعدل‏,‏ أو ما تفرضه عليها بعض الجهات السلطوية من عدوان‏,‏ وكانت العلاقات المهنية بل والانسانية بين الجانبين تتنزه عن أية دوافع شخصية أو فئوية‏,‏ بل كانت تشهد تكاملا تمليه الزمالة قبل ان يفرضه القانون‏,‏ وفجأة رأينا الفيروس الخبيث في المناخ السائد الذي أشرت إليه ينتقل إلي حراس الحصن ويهدد بتصدعه‏,‏ حتي وصل الأمر إلي صدور حكم بسجن اثنين من المحامين بطنطا‏,‏ ثم إلي إعلان نقابة المحامين الإضراب العام عن الوقوف أمام منصات القضاء‏!‏
ووقف الشعب مبهوتا أمام ما يجري‏,‏ وهو لا يستطيع أن يحدد إلي أي جانب يقف‏,‏ وكيف يستطيع ذلك وأحشاؤه مفتوحة بين الطرفين من خلال آلاف القضايا التي حكم عليها بالتجمد حتي تنتهي الأزمة‏,‏ فوق ما عانته من انتظار وتجميد في اضابير المحاكم خلال شهور وسنوات سابقة؟‏..‏ وإذا كانت مؤسسة القضاء بوجوهها الثلاثة التي يمثلها القاضي والمحامي ووكيل النيابة تعد ضمير المجتمع الذي يرسي سيادة القانون في جميع المنازعات‏,‏ فكيف نواجه ما يصيب هذا الضمير من تصدع؟‏..‏ وإلي من نلجأ إلي حين انتهاء أزمته؟
ولنا أن نتخيل مواطنا سلب منه حقه‏,‏ أو موظفا أوقف عن أداء وظيفته‏,‏ أو مجنيا عليه في اعتداء كان يتطلب قرارا عاجلا بالبحث عن الجناة أو توقيع الكشف الطبي عليه قبل زوال أثر الاعتداء‏,‏ أو متهما قبض عليه في مظاهرة حقوقية يتطلع إلي جلسة عاجلة لتحكم بالإفراج عنه‏..‏ هؤلاء جميعا يفاجأون بإيقاف عجلة الزمن ليبقي حال كل منهم علي ما هو عليه حتي تنقشع الغمة بين القضاء الجالس والقضاء الواقف‏!‏
ان رجال القضاء بشقيه كانوا حتي وقت قريب جدا فرسان المعارك الديمقراطية‏,‏ ولا ننسي وقفاتهم الاحتجاجية علي مرأي من العالم أجمع ضد أوضاع تمس الحريات والمصالح الوطنية‏,‏ أو مطالبين بمزيد من الحرية والديمقراطية‏,‏ ضاربين أروع الأمثلة في الشجاعة والمواجهة حتي المخاطرة‏,‏ لهذا استحقوا وقوف فصائل الشعب إلي جانبهم مؤيدة‏,‏ وهم في النهاية بعض من فصائل المثقفين‏,‏ الذين اجتازوا السور التقليدي بين المثقف والسياسة‏,‏ ليس بمعني الاشتغال بها احترافا‏,‏ بل بمعني الانتقال من موقف القول إلي موقف الفعل من أجل التغيير‏,‏ وبهذا الاجتياز الجسور كانوا يضعون بداية الحل لأزمة المثقفين‏,‏ وهو تجاوز الشأن الخاص إلي الشأن العام‏,‏ والإيمان بأن قدرهم ان يكونوا طليعة لقوي التنوير والتغيير‏.‏
فماذا حدث حتي تم اختراقهم واستغراقهم في الشأن الخاص‏,‏ فيما ينتفض جسد الأمة رغبة في التغيير‏,‏ وتنفض قوي عديدة عن نفسها قوقعة السلبية‏,‏ وتعلن صحوتها وإصرارها علي المشاركة في الحراك السياسي والوطني؟‏..‏ أيكون ذلك احد مظاهر ثقافة الزحام التي نعاني من أعراضها‏,‏ وتتمثل في التدافع بالمناكب والأذرع والأقدام للسبق من أجل الحصول علي الفرص الشحيحة المتاحة‏,‏ في مناخ اختلت فيه معايير القيم والحق وحلت محلها معايير النفوذ والسطوة والفهلوة؟‏..‏ أيكون ذلك أحد مظاهر اليأس من الإصلاح أو من توافق الجماعة الوطنية علي مشروع عام للتغيير والنهضة‏,‏ في ظل سيطرة الأنوية والأنامالية اللتين اصبحتا رائدتين للجميع؟‏..‏ أم هو انفجار مفاجيء في صدور أبناء المهنة نتيجة ضغوط متراكمة طال أمدها وافتقدوا بسببها العدل لأنفسهم فيما يسعون لتحقيقه للآخرين؟
لكن أيا ما كانت الأسباب فإن ما ينبغي أن ندركه الآن هو إطفاء هذا الحريق قبل أن يلتهم الجميع‏,‏ وهو رأب الصدع وانتزاع فتيل الفتنة من أيدي من ينفخ فيها‏,‏ مؤكدين كامل الاحترام لكل ممثلي العدالة‏:‏ قضاة ومحامين ورجال نيابة‏,‏ فبدونهم متضافرين كالحبل المشدود لا أمل في إحقاق الحق وإرساء العدل‏,‏ ولن يتحقق ذلك إلا بتمثلهم للمعني الصحيح لرمز العدالة معصوبة العينين عن النوازع الشخصية‏.‏

المزيد من مقالات عزالدين نجيب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.