عاماً بعد عام تتزايد قيمة الدعم المالى للسلع والطاقة والخدمات الاجتماعية بحيث يصل فى مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية الجديدة التى تبدأ أول يوليو المقبل إلى 116 مليار جنيه. وذلك بزيادة 20,8 مليار جنيه عن العام المالى الجارى، وهو ما يمثل حوالي ربع اجمالي الانفاق العام, ونحو 8,4% من الناتج المحلي الاجمالي لمصر لتتصدر مصر بذلك الدول التي تقع في فئة الدول ذات الدخل المتوسط مثل اندونيسيا وتونس وجنوب افريقيا وارمينيا. وارقام الدعم المرتفعة في مصر مستمرة منذ خمس سنوات منذ ان قامت الحكومة الحالية بتغير بنود الموازنه العامة, و اعادة هيكلة الدعم, باضافة دعم الطاقة والكهرباء لموازنتة والغت ما كان يعرف بالدعم المباشر والدعم غير المباشر, الامر الذي ادي الي تضخم ارقام الدعم بصورة غير مسبوقة في تاريخ مصر الاقتصادي, في الوقت الذي ادي سوء ادارة الدعم الي عدم وصوله لمستحقيه, وتسربه الي الانتهازيين و الوسطاء واللصوص بالسوق ولفئات كثيرة غير لاتستحقه. والسؤال هنا.. ما الذي ادي الي تضخم ارقام الدعم بموازنة الدولة الي هذا الحد المتوحش, حتي بات يحد من قدرة الدولة علي الارتقاء بالخدمات الاجتماعية والتعليم والصحة, والبنية الاساسية, والانفاق علي البحث العلمي والثقافة.. وكيف يمكن فك الاشتباك الحالي بين ارقام الدعم المتعددة, ويتيح الكشف بشفافية عن ارقامه الحقيقية, و بالتالي وضعه في مساره المالي والاجتماعي الصحيح, وهل يعني ذلك ان هناك حاجة لتغيير طريقة اعداد الموازنة العامة للدولة, للمحافظة علي مواردها من الاهدار الناتج عن التبويب الحالي وتضخم ارقام الدعم فيها, والذي تسبب في اتساع رقعة الفساد واعداد الفاسدين, والمتربحين من المال العام, حسب ما تظهره باستمرار تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات ؟.. هذا ما يحول ان يجيب عليه التحقيق التالي. فعلي الرغم من ان مصر بدأت في تطبيق الدعم السلعي منذ عام 1945 بقيمة مالية بلغت 2 مليون جنيه، ثم بدأت ارقامه في التزايد بعد قيام ثورة يوليو عام 1952 حيث وصل في ذاك العام الي 15 مليون جنيه والي 1,6 مليار جنيه في عام 1981, ثم واصل ارتفاعه حتي بلغ في عام 2001 حوالي 4,9 مليار جنيه, الا ان القفزة الكبيرة في ارقامه بدأت منذ مجيء حكومة الدكتور احمد نظيف وتولي الدكتور يوسف بطرس غالي مسئولية وزارة المالية عام 2005, حيث قفزت ارقام الدعم من 13,8 مليار جنيه في موازنة عام 2005/2004 الي حوالي54 مليار جنيه دفعة واحدة في موازنة عام 2006/2005 بنسبة زيادة بلغت424% وذلك بعد تبني معيار جديد لتصنيف ابواب الموازنة, وظهور بنود جديدة في الدعم مثل دعم المواد البترولية, الذي كانت تتحمله هيئة البترول, كما تم الغاء التفرقة بين الدعم المباشر, والدعم غير المباشرو المتمثل في المنتجات البترولية والكهرباء, والنتيجة, التي كشفت عنها تقارير مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء, ان الدعم استحوذ في موازنة عام 2005-2006 على 26,1% من اجمالي الانفاق في الميزانية العامة مقابل 8,5% فقط في عام 2005/2004، وارتفعت ايضا نسبته الي الناتج المحلي الاجمالي لحوالي 8% من 2,3% و استمرت هذه النسب تقريبا خلال السنوات المالية الخمس الاخيرة حتي السنة المالية المقبلة. توحش دعم المنتجات البترولية ويرجع التضخم الدرامي في ارقام الدعم الي الارتفاع الكبير في دعم المنتجات البترولية, التي استحوذت على 75% من اجمالي ارقام الدعم, بينما تراجعت نسب دعم الخبز من حوالى 41% من اجمالي الدعم في عام 1981 إلى 14,1% في عام 2007، كما تراجع دعم السلع التموينية خلال نفس الفترة المقارنة من 8% إلى 2,6% من اجمالي قيمة الدعم. و جاء توحش ارقام الدعم علي حساب المخصصات المالية للصحة والتعليم, حيث تراجعت مخصصات التعليم كنسبة من الانفاق العام من حوالي 17,1% عام 2001 الي 12% عام 2007، ومخصصات الصحة خلال نفس الفترة المقارنة من 3,5% إلى 4,4%. وعلي الرغم من الاجماع الحالي بين الحكومة والخبراء الاقتصاديين علي ضرورة اصلاح انظمة الدعم الحالية, الا ان وجهة النظر الرسمية مازالت تري استمرار التبويب الحالي للميزانية العامة, والمنظومة الحالية او الهيكل الحالي للدعم, وهو ما لا يتيح شفافية اكثر لبنود الدعم, ولا ادارة اكفأ للمنظومة حتي يصل لمستحقيه. ويوضح ذلك الدكتور جمال صيام الاستاذ بزراعة القاهرة وعضو لجنة الزراعة بامانة السياسات بالحزب الوطني, قائلا: ان الدعم اداة رئيسية لمكافحة الفقر, وتحقيق العدالة الاجتماعية, ويطبق ايضا لتشجيع مجالات معينة من الانتاج والتصدير, ويتزايد عاما بعد الاخر بالميزانية طبقا لمقتضيات التضخم, واعادة النظر في الاولويات بين الانشطة موضع الدعم, وترتفع تقديرات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية في الموازنة العامة لسنة المالية 2011/2010 لنحو 116 مليار جنيه مقابل 95,2 مليار جنيه في السنة المالية 2010/2009 بزيادة 20,8 مليار جنيه وبنسبة زيادة 21,8%, وهو ما يمثل 8,4% من الناتج المحلي الاجمالي البالغ 1378 مليار جنيه في السنة المالية الجديدة, ويستحوذ الدعم علي نحو 42,1% من الانفاق العام البالغ 481 مليار جنيه. ويضيف انه وفقا للتقسيم الحالي للدعم الي جزءين رئيسيين, فان مخصصات الدعم في الميزانية الجديدة ترتفع الي 101,8 مليار جنيه, والمنح والمزايا الاجتماعية تبلغ 14,2 مليار جنيه. وبتحليل مخصصات الدعم, فان المكون الرئيسي هو دعم المنتجات البترولية الذي يبلغ67,7 مليار جنيه بنسبة 58,4% من اجمالي مخصصات الدعم والمنح, ويستحوذ علي ثلثي الدعم بمفرده, اما المكون الثاني للدعم فهو دعم الخبز والسلع التموينية' دعم الغذاء' ويبلغ 13,6 مليار جنيه بنسبة 11,7% من اجمالي الدعم والمنح, وبنسبة 13,3% من مخصصات الدعم, ويلي ذلك دعم الكهرباء بقيمة 6,3 مليار جنيه, وتنشيط الصادرات 4 مليارات جنيه, والمحاصيل الزراعية' منتجي القمح والذرة '1,9 مليار جنيه, ودعم اسكان محدودي الدخل بمليار جنيه. وبتحليل هذه البنود, يري الدكتور صيام ان هناك ضآلة في ارقام الدعم الموجه للغذاء, والذي لا تتجاوز نسبته 13,6% من اجمالي الدعم, ونحو 2,8% من الانفاق العام او 1% من الناتج المحلي الاجمالي, وذلك اذا ما قورن بما ينفقه الفرد المصري علي الغذاء, والذي يصل في المتوسط الي 40% من دخله, في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة الفقراء واشباه الفقراء الي اكثر من 35% من عدد السكان حسب تقديرات البنك الدولي. و اذا ما اخذ في الاعتبار اجمالي كل المخصصات المالية الموجه للسلع الغذائية والصحة والتعليم, وهي التي من المفروض انها تساهم بشكل مباشر في تخفيف حدة الفقر بالمجتمع, فانها لا تستحوذ الا علي نحو 24,5% فقط من اجمالي مخصصات الدعم والمزايا الاجتماعية وحوالى 5,9% من اجمالي الانفاق العام. يضاف ان هذه المخصصات في السنة المالية الجديدة تزيد فقط بقيمة 27,6 مليار جنيه عن ميزانية العام الحالي الذي ينتهي في 30 يونية الجاري, وهذه الزيادة تمثل ما نسبته حوالى 2,6% فقط, علي الرغم من اجمالي المصروفات العامة بين الميزانيتين زادت بنسبة 35,6% وذلك من 354,1 مليار جنيه الي 481 مليار جنيه, وفي الوقت الذي زادت فيه مخصصات الدعم والمزايا الاجتماعية بنس وذلك من95,2 مليار جنيه الي116 مليار جنيه, فان دعم المواد البترولية استأثر باكبر زيادة بلغت 72,4%. واذا كانت فاعلية الدعم تقاس بايصاله لمستحقيه, فان الدكتور صيام يري ان جزءا كبيرا من الدعم لا يصل لمستحقيه, ورغم ندرة البيانات الدقيقة الدالة علي ذلك, فان الدراسات المتاحة تشير الي ان أعلى 20% من السكان دخلا يحصلون على 23 من دعم الغذاء, بينما يحصل افقر20% من السكان علي17% فقط من دعم الغذاء, وهو توزيع معكوس يدل علي اهدار الدعم, وتقليل فاعليته في تحقيق اهدافه. وفي الوقت الذي زادت فيه مخصصات دعم الغذاء والخدمات بالموازنة العامة بنسبة 2,6% فقط, فان المستوي العام للاسعار' التضخم' ارتفع باكثر 11% سنويا في المتوسط, وهو ما يعني انخفاض القيمة الحقيقية او القوة الشرائية لمخصصات الدعم. في الوقت الذي تستأثر فيه الفئات الاعلي دخلا بالمجتمع بالجزء الاكبر من المخصصات البترولية سواء باستهلاك السيارات لهذه المنتجات او استهلاك الطاقة بالمصانع, كلها توجد في المدن والقطاع الحضري اما القطاع الريفي الذي يوجد فيه 70% من فقراء مصر فيحصل علي النصيب الاصغر من دعم المنتجات البترولية او دعم الغذاء والخدمات. توزيع الدعم لا يراعي الفقراء وتضيف الدكتورة هنادي عبد الراضي استاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة الاسكندرية, ان توزيع الدعم السلعي الحالي لا يراعي العدالة الاجتماعية, و لا توزيعات الفقراء في المحافظات, حيث يتم توزيع المخابز وحصص الدقيق وفقا لعدد السكان وليس عدد الفقراء, فحسب تقارير البنك الدولي, فان نسبة الفقراء في الريف تصل إلى 46% تقريبا من اجمالي السكان مقابل 22% تقريبا في الحضر, وتصل نسبة الفقراء في محافظات الوجه القبلي لحوالى 32,5% وفي الوجه البحري حوالى 14,6%, وفي محافظات الحدود 14,5% وفي محافظات الحضر تصل النسبة إلى 5,3% من مجموع السكان. كذلك يتم توزيع دعم السلع التموينية وفقا لتوزيع السكان والبطاقات التموينية, وحسب بيانات عام 2008, فان محافظات الوجه البحري استحوذت علي حوالي 44% من اجمالي هذا الدعم, تليها محافظات الوجه القبلي بنسبة 34% والحضر على 20% بينما لم تتجاوز نسبة محافظات الحدود 1,2% من اجمالي دعم السلع التموينية. ونجد نفس التشوه في توزيع المنتجات البترولية, و رغم ندرة البيانات الدقيقة المتاحة, فان ميزانيات الدولة تشير الي استحواذ السولار على 43% تقريبا من دعم المنتجات البترولية وتستحوذ المصانع المحتكرة للاسمنت والحديد وغيرها علي نسبة كبيرة منه, و يستحوذ دعم البوتاجاز علي حوالى 21%, والغاز الطبيعي على 17% والبنزين علي حوالى 9%, و الملفت للنظر ايضا ارتفاع مخصصات دعم الكهرباء المستمر رغم الزيادات المتعددة علي اسعارها, حيث ارتفع الدعم المالي لها من حوالي3,2 مليار جنيه عام 2007 الي 6,3 مليار جنيه في السنة المالية الجديدة. تحميل خسائر الشركات علي الدعم ويري الدكتور حمدي عبد العظيم عميد أكاديمية السادات الاسبق: ان جزءا من تضخم او زيادة ارقام الدعم في الموازنة العامة منذ عام 2005 يعود الي زيادة اسعار المكون الاجنبي في السلع والمنتجات المستوردة من الخارج مثل البوتاجاز, ودفع قيمة شراء حصة الشريك الاجنبي من الغاز والبترول بالدولار, بالاضافة الي زيادة اسعار السلع محليا بنسبة وصلت لنحو 20% خلال السنوات الخمس الماضية قبل ان تتراجع الاسعار منذ اكثر من عام لفترة, ثم عادت للزيادة. و يقول ان مخصصات الدعم هي فروق اسعار تتحمل جزء منها خزانة الدولة, وجزء منها يتحمله المستهلك النهائي. وبالنسبة لدعم المنتجات البترولية فهو دعم ضمني او دفتري, علي اساس حساب فرصة البيع بالاسواق الدولية, وبحساب تكلفة شراء هيئة البترول من الشريك الاجنبي, فان حسابات الهيئة تظهر خسارة, وارقام الدعم المخصصة تتزايد في الموازنة العامة, ولكن حقيقة الامر, ان هناك تحميلا علي ارقام الدعم في الميزانية بخسائر الشركات وسوء ادارة منظومة الدعم بشكل عام. فعلي سبيل المثال يتم تحميل خسائر شركات الكهرباء والمياه الحكومية علي فاتورة اجمالي الدعم, كما انه من المفروض ان دعم الكهرباء علي سبيل المثال يوجه للاستهلاك المنزلي, وليس للمصانع وللورش, والدعم المنزلي يتم وفق شرائح, وهو ما تقوم به منذ فترة طويلة وزارة الكهرباء. وفي هذا الصدد اشارت دراسة لمركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء جرت في عام 2007 الي أن 50% من اجمالي المشتركين يستهلكون ما بين 51 الي 200 كيلو وات ساعة في الشهر, وتتراوح قيمة الدعم الشهري لهم ما بين 4,5 جنيه الي 11,5 جنيه. ويري الدكتور حمدي عبد العظيم, ان سوء ادارة منظومة الدعم ادت الي استفادة المحتكرين من المصنعين من الدعم, بجانب استفادتهم باشكال اخري من الدعم التصديري والتقني وغيرها من اشكال الدعم, كما ان الفساد في ادارة الدعم السلعي خلق طبقة من التجار والوسطاء المستفيدين من اموال الشعب, ونسبة الفساد في تجارة السلع المدعمة يمكن ان تصل الي25%, بناء علي حسابات التسريب, لذلك فان استبدال الدعم العيني او السلعي بدعم نقدي ليس هو الحل في الوقت الحالي, لانه سيؤدي الي اشتعال الاسعار في السوق, وعدم قدرة الدولة علي السيطرة علي الاسعار وما يترتب علي ذلك من اضطرابات اجتماعية, والحل هو فصل التكلفة في القطاعات, والفرق في الاسعار تتحمله الدولة, وبالتالي يمكن تحديد حجم الدعم الحقيقي او الدعم الصريح. وفي هذا الصدد, يضيف الدكتور عبد العظيم الي ان الدكتور مدحت حسانين وزير المالية السابق في حكومة عاطف عبيد كان في طريقه لتطبيق نظام موازنة البرامج والاداء, بمعني انه لا يتم اعتماد اي بند في الموازنة الا بعد حساب التكلفة والعائد, فاذا تبين ان هناك عائد ا اقتصاديا او اجتماعيا يتم اعتماد ذلك في الموازنة, و تحديد فترة التنفيذ والمحافظات التي سينفذ فيها المشروع او المشاريع, وبالتالي, فان الدعم في الموزانة يرتبط بالتنفيذ الفعلي, وهو ما ستدفعه الخزانة العامة, ام سياسة الدعم الضمني الحالية, فان الخزانة العامة تتحمل من خلالها فروقات الاسعار بين سعر السوق وسعر البيع للمستهلك, وهي سياسات لا تعكس شفافية في ادارة مخصصات الدعم بالميزانية العامة سواء للسلع والخدمات, حيث ان تكلفة الخدمات غير شفافة وتحمل باعباء الاختلاسات والتلاعبات المالية والسرقات والتربح من وراء المال العام, وهو ما تظهره باستمرار تقارير جهاز المحاسبات. ويضيف الدكتور صيام الي ذلك قائلا: ان عدم استهداف الدعم لمستحقيه يعمق الفقر وانعدام العدالة الاجتماعية, بالاضافة الي ما يحدثه من تشوهات في الاسعار تتم في الاغلب لصالح الوسطاء, وربما يكون الدعم النقدي بديلا جيدا لتحقيق الاستهداف الكامل للفقراء, ولكن ذلك يقتضي تحديد المستحقين بخريطة واضحة, وربطه بمعدلات التضخم, مع ضرورة متابعة المتغيرات الداخلية والحراك الاجتماعي بين الفئات المختلفة. وبالنسبة للمخصصات الحالية لدعم الغذاء, يري الدكتور صيام لابد من ربطه بمعدلات تتماشي مع معدلات التضخم وهى 10% سنويا علي الاقل, حتي ولو كان ذلك علي حساب دعم المنتجات البترولية, وذلك عكس ما تشير له بيانات ميزانية السنة المالية الجديدة, كما يري اعادة النظر في بعض بنود الدعم مثل دعم الصادرات, ويبلغ حوالى 4 مليارات جنيه, ويمكن ربطه بالزراعات التعاقدية حتي يصل جزء منه لصغار المزارعين ذوي الدخل المنخفض, كما ينبغي ان يحصل الريف علي الجزء الاكبر من مخصصات الدعم علي نحو يتناسب مع نسبة الفقراء فيه, حيث يضم الريف حوالى 70% من الفقراء في مصر.