1 بالأمس كانت أمطرت في الليل مطرا غزيرا, لم أشعر به إلا عندما غادرت البيت صباحا في طريقي إلي العمل, كانت الشمس الخفيفة قد طلعت علي جانب من الشارع المبتل. وكذلك مساحات من جدران البيوت الجانبية التي بقعها الماء, بينما تجمعت بعض البرك في حضن الرصيف الممتد. وكان الهواء مشبعا بالرطوبة ورائحة المطر. 2 كل الحقول صامتة. لا صوت أبدا في هذه المساحات الهائلة بين القري التي أمر بها, حقول الذرة حيث التقيت بالمرأة الشابة, والبنت الصغيرة تكون طويلة وكثيفة, بقية الحقول ليست كذلك أبدا, أنا كثيرا ما أتمهل بدراجتي أمام حقول أخري وأري ذلك النبات الرفيع الأخضر, وهو يزركش جوانب الخطوط الطينية الداكنة دون أن أعرف هل هو البرسيم أو الأرز, أم أنه زرع آخر, تري الأراضي خالية إلا من بعض أكوام السباخ أو الأعشاب الجافة أو الخضراء الملمومة المتباعدة, أو تري ساقية أو شجرة, تظن أن لا أحد هناك حتي تفاجأ بفلاح ينهض, وهو يمسك بسكينه المقوس أو حزمة من عشب يلقي بها ويجلس. الفلاح لا تراه أبدا مادام ساكنا في موضعه داخل الحقل. صدقني عندما أقول لك إنه يتحول إلي جزء طبيعي من المشهد المحيط لا تلحظه إلا إذا استقام, أو تحرك الحمار كذلك, بعد ما ظننته غير موجود يفاجئك بأن يرفع أنفه الكبير متشمما الهواء الطلق, أو يباغتك بنهقة قصيرة ويسكت. 3 آخر النهار سمعت طرقا خفيفا علي بابي, عندما فتحت وجدت شابة تتطلع إلي بعينين جريئتين كان شعرها مفروقا من النصف ولها ضفيرتان صغيرتان تستلقيان علي نهديها المكورين, عرفتها من وجهها الذي يطل دائما, بينما هي تتكئ بمرفقيها علي قاعدة شباك الطابق الأول تراقب الطريق, قالت إنها دعاء, حفيدة الجدة فريدة صاحبة البيت, أخبرتني بصوت به بحة أن زميلي صاحب الشعر الطويل جاء في الليل المتأخر, وظل واقفا في المطر يدق علي باب البيت الخارجي, وأنه ظل يفعل ذلك زمنا طويلا وانصرف, غاب وعاد يخبط بقوة أكبر, وقد أغرقه الماء. قالت إنهم لم يفتحوا له لأنهم ظنوا إنني سمعته وتجاهلته لأن الوقت كان متأخرا, شعرت بالضيق الشديد وقلت إنني لم أسمعه, استغربت لأنني التقيت سليمان صباحا في المكتب, ولم يخبرني بأي شيء عن ذلك. أو مأت إلي أول الطرقة فاهتزت ضفيرتاها, وقالت: تعالي أعرفك علي جدتي. 4 ما إن تري العجوز حتي تبدو لك مثل جنية صغيرة بوجهها الطفولي الضاحك وهالة الشعر الفضي المنكوش حول وجهها من كل جانب, ودعاء قالت لها: إزيك يا فريدة. وفريدة تهللت وهي تقف في ركن الحجرة بقامة ضئيلة وجلباب نظيف بورود حمراء باهتة, اقتربت مني ومدت يدها تصافحني خجلة ثم دعتني إلي الجلوس, واستلقت علي سريرها النحاسي, واستندت إلي المخدات, ودعاء غطت ساقيها وعادت تقول: عاملة إيه يا فريدة, واتجهت إلي المنضدة الصغيرة في ركن الحجرة التي بدت أكبر من حجرتي, ولها نافذة علي الطريق الجانبي تغطيها ستارة من التولي, كانت كنبة ومقعدين كبيرين وآلة عود داخل كيس معلقة علي الحائط وثلاثة إطارات خشبية لصور بالأبيض والأسود علي الجدار الآخر, فوق الكوميدينو القريب من رأس السرير, كانت علب دواء وكوب مقلوب ودورق به ماء, قالت دعاء إن بوسعي التحدث مع فريدة, وقول ما أشاء, وهي سترد علي, وأنا التفت إلي فريدة ووجدتها ضمت ذراعيها علي طرف الغطاء, وتطلعت إلي ضاحكة في انتظار أن أتكلم, ولكنني ابتسمت لها, ولم أعرف ماذا أقول, وهي ظلت تتأملني طول الوقت ثم صاحت من مصر؟ وقلت آه وهي خبأت وجهها بكفيها. 5 كنا انتهينا من شرب الشاي في أكواب القيشاني الملون, ودعاء قبلت جبين فريدة وأنا صافحتها, وقبل أن أغادر باب الحجرة صاحت ورائي: مع السلامة يا عبدالله, وضحكنا جميعا. عند باب حجرتي المفتوح قلت لدعاء إن جدتها ست جميلة جدا, وعندما هزت رأسها موافقة وتطلع كل منا في عين الآخر قلت لها: ما تتفضلي وهي قالت: مرة تانية. وصعدت السلم وللكلام بقية