حين أطلقت علي إحدي مجموعاتي الشعرية الأخيرة تسمية ربيع خريف العمر, لاحظت أن العنوان استوقف عددا من الأصدقاء, المعنيين بالشعر دراسة وتذوقا, لأنه جمع بين الربيع والخريف في سياق واحد, وهو أمر غير معتاد أو مألوف. وكان وراء اختياري لهذا العنوان رغبة في الإفصاح عن أن لكل عمر يعيشه الانسان أو يبلغه ربيعه الخاص, حتي لو كان العمر قد تقدم به كثيرا. بل قد يكون للإحساس بربيع العمر في ظل العمر المتقدم مذاق خاص ومعني خاص. إنه ربيع عالي القيمة والمقام لأنه يأتي مبشرا بالازدهار والانطلاق والحيوية والتجدد, علي عكس ما كان يتوقع صاحبه الراصد لدورة الأيام. وفوجئت مؤخرا بأن شاعرا لبنانيا صديقا, هو المبدع هنري زغيب قد اختار لأحدث دواوينه عنوانا مشابها أو مماثلا حين أطلق عليه ربيع الصيف الهندي. قلت لنفسي: لقد جمعت أنت بين الربيع والخريف, فلا عجب في أن يجمع هو بين الربيع والصيف, وهما أكثر اقترابا وتتابعا من الربيع والخريف. ثم اكتشفت أنه لجأ إلي هذا العنوان عندما أحس أنه في الطريق إلي مرحلة فاصلة من عمره هي الستون. وعندما بلغها بالفعل, دخل كما يقول في خلوة عميقة ذاتية, راجع فيها كل ما كان ومن كان, وخرج من الخلوة بنذر جديد, أن يبدأ من الستين عمرا يفصله عن سابقه وعي الزمن الهارب الذي تزأبق من بين أيامه وهدر منه الكثير بلا طائل. ولا يفوت هنري زغيب في واحدة من حواشي ديوانه أن يشرح لقارئه أن الصيف الهندي أو صيف الهنود موسم شائع في أمريكا الشمالية( الولاياتالمتحدة وكندا) يأتي غالبا في أواخر أيلول, ولا يعيش سوي بضعة أيام وينقضي, ومدلوله: تجديد يأتي مفاجئا, أو متأخرا! ولا يفوته أيضا أن يعلن بلغته التي هي بعض سمته وملامحه : أن هذا الديوان يتصالح به الرجل مع الشاعر. قبله, كان الشاعر مرات يسبح في الخيال, فيدع الرجل علي أرض الواقع يواجه خيباته. ومرات كان الرجل ينفصل عن الشاعر, ليعيش حياة يومية عادية يأنفها الشاعر. في هذا الديوان يتصالح الرجل والشاعر معا. إذن يتصالح الزمن في أبعاده الثلاثة: يبتعد عن عتبات الماضي ليعيش الحاضر, ويقف مواجها مصيره عند عتبة المستقبل. كثيرة كانت العتبات التي وقف عندها في ذاك الماضي, وكثيرة كانت خيباته من دخوله تلك العتبات وأبوابها. يقول هنري زغيب: استعان الرجل بي بشجاعة الشاعر, وقررا الدخول معا: اجتياز العتبة الجديدة إلي الباب الجديد الذي يفتح علي عمر جديد يبدأ في الستين. هو ذا الزمن من جديد. وها أنا وجها لوجه أمامه. في حضرته. في هيبة سلطانه. دخلت. تخطيت ترددي ودخلت. شاعرا ورجلا دخلت. من يومها تغير الرجل بي وتغير الشاعر. هو ذا الزمن من جديد. لكنني تصالحت معه. نجمة العمر صالحتني معه. أشرقت قصائدي قبل أن تذبل في الخريف. أشرق عمري قبل أن يبتلعه العشق. وها أنا, منذ صحوة الستين, في فجر دائم. غدا يا حبيبي, متي نهرم؟/ ويمضي بنا العمر صوب الغروب/ وما زال فينا شروق يجدده حبنا المكرم/ ونبقي/ كما نحن : شع هيام/ ويبقي بنا وله مغرم/ ويبلغنا في الخريف الخريف/ ونحن ربيع وأنت ربيعي/ تحاصرني بحنانك, قال/ ونمشي علي شاطيء البحر/ نمشي/ ومن حولنا نورس حوم/ ورف مشاة/ ونحن ولو حولنا هم / بعيدان عنهم/ يذوبنا في الحنين الحنين/ يلوحنا الحب وجهين في مستهل الخريف/ ونجلس عند شفير الرصيف/ يرذذنا البحر:/ أنت خيالك صوب البعيد المدي/ وأبقي أنا: بعينيك عيناي/ ملهوفة بك/ رغم الذي كان ممن مدي حبنا حرموا/ غدا, يا حبيبي, متي نهرم/. الشاعر لا يحسب عمره كما يحسبه سائر الناس. إنه يملك أن يثور عليه وأن يعيد تشكيله, وأن يخرج به من هوة الرتابة والتكرار, إلي فضاء التجدد والحرية والمغامرة والانطلاق, صانعا ربيعه في كل وقت, ومفجرا إبداعه الجديد ليفاجيء به الناس والحياة. وآفة الشاعر الكبري هي أن يستسلم لعبء الزمن, وثقل الأيام, وضراوة الاحساس بشيخوخة تقتات دمه وخلاياه وأعصابه. وهنري زغيب يقدم لنا في مغامرته الشعرية الجديدة وعيا متقدما بالحياة, وسعيا دائبا للتصالح مع مراحل العمر, متخذا من بلوغه الستين حدا فاصلا, ونقطة انطلاق لميلاد جديد, وفيضا من القصائد الجديدة, البديعة, المشرئبة إلي عناق الربيع: حبيبي, سلام الحياة عليك/ إليك حناني يفيء لديك/ هو البحر مد مداه إلينا/ وآخذ رأسك بين يدي/ وننظر صوب البعيد/ إلي الأفق المترامي البعيد/ وأنت تدندن شعرك بي/ أردد بعدك كل قصيدة/ وأقطفها منك دنيا جديدة/. ولا شك أننا نحن قراءه ومتابعي رحلته الشعرية سنعذره, وهو يهتف قائلا: فيا أيها الصيف الهندي لا تمارس هنديتك علي نجمة العمر. وأنت, أيها العمر, ها أنا أتيت, اجتزت العتبة الجديدة, دخلت الباب الجديد! المزيد من مقالات فاروق شوشة