عندما حاول ابن خلدون التوصل إلي منهج علمي للتأريخ, أو لتحقيق الروايات التاريخية, حتي يتبين للمؤرخ الروايات الصحيحة من الروايات الفاسدة المحرفة, توصل إلي علم جديد أطلق عليه علم العمران البشري. وقد استمد هذا الاسم للعلم الجديد من قوله تعالي في سورة هود هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها وإذا نظرنا إلي الحضارة التي أسسها الرسول عليه الصلاة والسلام بعد بناء أول دولة إسلامية في المدينةالمنورة, تلك الحضارة التي تنطلق من القرآن والسنة أو من الوحيين, لأن كليهما وحي من الله, نجد أن هذه الحضارة تتميز جوهريا عن كل الحضارات بعدة خصائص أهمها أنها حضارة إنسانية تشترشد بهدي السماء, وتنضبط بضوابط الوحي, ومحكومة بمجموعة الأحكام الشرعية قطعية الدلالة, وقطعية الثبوت في القرآن والسنة, وثانية هذه الخصائص الجوهرية لحضارة الإسلام انها تؤكد علي الثوابت الخمسة وهي العقيدة القائمة علي التوحيد, والمقاصد الشرعية, والأحكام القطعية, والقيم الأخلاقية, والعبادات, كما أنها تؤكد علي ضرورة التجديد في مجال المتغيرات( الاقتصادية والعلمية والإدارية, والتكنولوجية.. الخ) بشرط الانضباط بأحكام الثوابت الشرعية, حتي لا يكون التجديد منفلتا أو منحرفا أو متصادما مع معايير شرعية محددة. ونستطيع ان نعرف حضارة الإسلام, وأهدافها العليا بأنها حضارة البناء والعمارة. والعمارة هنا ليست مصطلحا فضفاضا, انما يشمل عشرة أمور محددة ورد بشأنها العديد من النصوص الشرعية المحددة في القرآن الكريم والسنة الشريفة ويمكن اختصار هذه الجوانب العشرة فيما يلي: أولا: عمارة الإنسان بربطه بالإسلام في جوانبه الأربعة, وهي العقيدة, والشريعة, والأخلاق, وبناء ونظم المجتمع المسلم. ثانيا: عمارة الروح بربطها بخالقها من خلال التوحيد والعبادات وذكر الله والانس به سبحانه وتعالي, وتطبيق أحكامه والانتهاء عن محارمه. ثالثا: عمارة النفس, بتزكيتها ومحاربة الشيطان, وقمع النفس الامارة بالسوء, وتجنب الآثام والشرور والتخلص من الحقد والحسد ومن الغيبة والنميمة, والارتقاء بدرجات النفس حتي تصل إلي درجات النفس اللوامة, والنفس المطمئنة, والنفس الراضية المرضية, كل هذا من خلال الرياضات الروحية والالتزام بأحكام الله, والاقتداء بالرسول الكريم الذي هو الأسوة الحسنة لكل المسلمين( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) رابعا: عمارة العقل بالمعرفة والمعلومات الصحيحة والعلوم بكل أنواعها وطلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة, ولا ننسي أن أول آية كانت( اقرأ) فنحن أمة العلم والقراءة. خامسا: عمارة الجسد. وذلك بالغذاء الجيد, وبعدم الاسراف في الأكل والشرب وبالبعد عن كل ما يؤذي الجسد من رذائل محرمة كالفواحش وشرب الخمور والمخدرات, والاسراف في السهر والملذات. وعمارة الجسد بالنظافة والطهارة التي هي شرط في كل صلاة, والبعد عن افساد الأرض والبيئة التي خلقها الله متوازنة نقيه. سادسا: عمارة الأسرة. وذلك من خلال بناء الأسرة المسلمة علي شرع الله, وعلي السكن والمودة والرحمة, وعلي المعاشرة بالمعروف, وعلي تربية الأبناء تربية إسلامية وسطية صحيحة. سابعا: عمارة المجتمع بتطبيق شرع الله, وتطبيق العدل والإخاء والتكافل الاجتماعي, والحفاظ علي حقوق الإنسان وحرياته وكرامته, والحرص علي أن ينال كل إنسان ما يكفيه من حاجات مشروعة, بطرق مشروعة. ثامنا: عمارة الأرض وهي التنمية الشاملة في مختلف مجالات العلم والتكنولوجيا والصناعة والزراعة والتجارة والانتفاع بالمسخرات الكونية, من خلال الوصول إلي سنن الله في الكون وفي المجتمع والإنسان والتاريخ. والتنمية الشاملة فريضة إسلامية. تاسعا: عمارة الأمة الإسلامية بالاعتصام بحبل الله, وعدم التفرق والتحزب والاختلاف المؤدي إلي الفساد والتمزق كما هو حادث اليوم. عاشرا: عمارة المجتمع الدولي, الذي يضم مجتمعات مسلمة وغير مسلمة من خلال سيادة قيم السلام والتعايش السلمي والتعاون والتعارف وعدم الاعتداء. حادي عشر: كل هذه الجوانب للعمارة يجب ألا تنسينا عمارة الآخرة التي هي دار القرار., وهي الحيوان لو كانوا يعلمون وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون( العنكبوت64) ويقول تعالي وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين( القصص77) وتكون عمارة الآخرة بتقوي الله وعبادته من خلال العبادة المشروعة في أركان الإسلام, وأركان الإيمان, ومن خلال عمارة الأرض والإحسان إلي الناس, والإنجاز والإبداع والإنفاق.. بشرط أن يكون المتبقي والهدف ارضاء الله وطلبا لرحمته ورضوانه والفوز بالجنة والنجاة من النار.