التاريخ ك"علم" أو فن فى الثقافات التى مارسته، ظهر أصلاً كرواية موضوعًا للخبر. والخبر فى التاريخ العربى - الإسلامى مثلاً صنفان: صنف لا ينفع معه إلا القول مع ابن كثير "فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم" والصنف الثانى فهو القائم بالتواتر أو بالشهادة والوثيقة، ومنهج الكتابة فيه قبل ابن خلدون والمقريزي، ولا يعدو أن يكون المنهج السائد فى علم الحديث، أى الرواية المشروطة بمبدأ التعديل والتجريح لتمييز صحيح الروايات من منحولها وفاسدها، وتمكين الإسناد، الذى هو "خصيصة هذه الأمة"، من الاعتمال والاتصال. غير أن مجمل الروايات المقبولة بالتصديق الإيمانى أو تلك التى يعوزها الإسناد أو تلمع باستحالتها وتخرق العادة والتقبل العقلي، كقصة بناء مدينة إرم وسط اليمن بأمر شداد بن عاد، وقصة بناء الإسكندرية من طرف ذى القرنين الإسكندر المقدوني، وقصة تمثال الزرزور، وقصة سجلماسة "النحاس"، وغيرها مما تناقله مؤرخونا القدامى بما فيهم إمامهم المسعودي، كل تلك القصص المروية، إضافة إلى ما هو معروف من قصص السير والملاحم وألف ليلة وليلة، للروائى اليوم أن يتمثل أقواها معنى وأجملها مبنى، مسجلاً إياها فى سجل الإرهاصات والتلمسات الروائية قبل بروز مفهوم الروائى - الكاتب ورسوخ الرواية كمشروع قصدى وكجنس واع بذاته وهويته، منتج لعمله وأساليبه وشكوله. إن ما زاد فى توثيق الصلات بين الرواية والتاريخ يكمن فى الثورة المعرفية التى أحدثتها مدرسة الحوليات الفرنسية منذ 1929، وخصوصًا غداة الحرب الكونية الثانية. وكان من إيجابيات هذه الثورة أن جعلت علم التاريخ قادرًا ليس على تحسين فهمه للماضى فحسب، وإنما أيضًا على الإسهام فى إدراك الحاضر وتوفير شروط التأثير فيه؛ كما أنه فى هذا كله نزوع إلى تسخير كل طاقات المعرفة، بما فيها إعمال التخييل، أى الحدوس والفرضيات، وذلك بغية إنشاء موضوعات تاريخية حول إشكالات مشوقة نافعة، بقدر ما هى دقيقة محددة، إشكالات من شأنها فتح جبهات ومراصد جديدة فى حقل المعرفة التاريخية، وهى على سبيل المثال لا الحصر: قضايا وحالات التاريخ المجتمعى والنفسى "التصورات والتخيلات والمشاعر الجماعية فى هذه الحقبة أو تلك حول أمور الحياة والموت"، الأوبئة والمجاعات والطواعين، حركات العصيان والتمردات الفاشلة أو المسحوقة، وغير ذلك مما يجعلنا أمام المجتمع وعمرانه بالمعنى الخلدونى وما بعد الخلدوني. وفى كل هذه القضايا وما قارنها كثير يجد الروائى مجاله الحيوى وحقله الثري، لاسيما وأن الشهادة أو الوثيقة التاريخية، كيفما تعدد حضورها وتجلب فعاليتها، لا يتسنى لها موضوعيًا أن تغطى مجالات الروح واللاشعور أو الحياة الباطنية بوجه عام، كما أنها لا تطال أيام وأعمال أصناف مجتمعية بكاملها، ناهيك عن الأديبات الشفوية والمرويات اللامكتوبة. فهناك إذن مغارات وهوامش كثيرة لا اهتمام أو لا طاقة للمؤرخين بها، وبالتالى فإنها عند فاعلى الرواية التاريخية تقوم مقام زادهم القوى ومرتعهم الخصب المتجدد إجمالاً: النص التراثى التاريخي، المكتوب منه والشفوي: أى نص أزخر منه أو أثرى بالواقعات والحالات والتجارب! وأى خزان أوسع منه لفرص إقامة الدلالات وتحريرها! لكن مثل هذا العمل الصعب الممارسة، باعتراف نجيب محفوظ، لا يوطد لظهور ثماره اليانعة الممتعة إلا العكوف على تحضير المواد التراثية التاريخية والاجتهاد فى استيعابها وفهمها. وهذا ما ضرب عليه أمثالاً شيقة كل من والترسكوت فى روايته الرائدة إيفانوي، وغوستاف فلوبير فى سالمبو، وليو تولستوى فى الحرب والسلام، ونجيب محفوظ فى رواياته الفرعونية وثلاثيته أيضًا، وكذلك مارغريت يورسنار فى مذكرات أدريان، وأمبرتو إيكو فى اسم الوردة، وأمين معلوف فى كثير من أعماله.. إلخ. أما عربيًا، فقد كان نجيب محفوظ سباقًا إلى تجريب ما أسماه "النوع الآخر من الرواية التاريخية"، وذلك فى رواياته الفرعونية المعروفة. غير أن الكاتب العربى الكبير منذ "القاهرةالجديدة" انصرف عن الرواية التاريخية بالمعنى الذى ذكرناه، وذلك، كما اعترف، لصعوبة الاضطلاع بها وممارستها. هذا مع أن العديد من أعماله التى يدرجها النقاد تحت مقولة "الواقعية الاجتماعية" وعلى رأسها ثلاثيته الشهيرة، قد صارت مع مرور الزمن ذات صلة وثيقة بالتاريخ والرواية التاريخية، كما يمكن التدليل عليه.