حتي المرح في الثقافة الشعبية المصرية ليس محض عبث, ليس مجرد هزل فارغ من المحتوي, رغم أنه في بعض الحالات قد يبدو كذلك, إنما المرح المصري حتي في صوره الهزلية الفاقعة زبدة الوهج في الخيال الشعبي المنطلق علي التعليقة متحررا من القيود الأخلاقية التقليدية, ومن التحفظات الطبقية بل أحيانا يستهدفها بالسخرية الحادة ليفضح التناقض بين الحفاظ علي المظاهر الشكلية ونقيضها في الخفاء, إن الخيال الشعبي المصري يبدع في الفكاهة بصورة لا مثيل لها بين بقية الشعوب, ولو كان إبداعه في بقية المجالات بحجم إبداعه في الفكاهة لتغيرت أوضاعه, وحسنت أحواله. مع ذلك فإبداع الخيال الشعبي في الفكاهة له في الواقع تأثير إيجابي في المزاج المصري العام, في روح التسامح التي لم نفقدها كلها بعد, في تحقيق حدة الشعور بالفواجع والكوارث, في إزالة الرهبة أمام المواقف الصعبة, في استجلاب الفأل الحسن في التنفيس عن الغضب قبل أن يتحول إلي ضغائن وإحن. ونلاحظ أن العائلات أو التجمعات أو الأحياء السكنية التي يكثر فيها عدد الموهوبين في خفة الظل المسومين بروح الفكاهة تقل فيها الشحناء, ويحدث نوع من التواؤم والتواد والأريحية, ذلك أن روح الفكاهة سريعة العدوي, فتهدأ النفوس ويسود المرح, ويتم التفاهم بالراحة والتعقل, ينفثيء الغضب بكلمة عذبة أو بصورة فنية ساخرة, ففي الحال تنفض المعارك, ويكسب الجميع الصلاة علي النبي. وربما كان جيلنا طفل الاربعينيات من القرن العشرين هو آخر الأجيال التي شهدت السوامر قبل انتشار الراديو, وشهدت المطارحات الفكاهية التي كانت تقام في الأجران, وفي الساحات تحت ضوء القمر, وأحيانا علي مصاطب دور العائلات الكبيرة, أو داخل المنادر, وحينما يحدثنا التاريخ المعاصر أن الثائر الأكبر عبد الله نديم كان أحد فرسان أمثال هذه المطارحات في القرية المصرية أو القري التي كان مختبئا فيها من مطاردات البوليس السياسي, نعرف إلي أي حد كانت المطارحات الفكاهية في الريف والحضر علي السواء هي زاد الناس وقناعهم, يبدع المتطارحون صورا فنية شديدة الغرابة, والتفرد غير معقولة علي الإطلاق, لكن جمالها كله في غير معقوليتها هذه, السحر في غرابة تركيبها بما يخالف الحدس والتوقع, تضحك المستمع, بل تزلزله وترجه, وتفتح وعيه علي روابط خفية بينها وبين ما يحدث في واقعهم اليومي من مواقف وملابسات ومصادمات, فضلا عن أنها تحرك الأخيلة وتشعلها. وحين أعود بذاكرتي إلي تلك الأيام البعيدة من طفولتي المبكرة يتأكد لي أن الصور الفنية العبثية والسريالية الصرفة التي كانت تتدفق في المطارحات الفكاهية, قد لعبت دورا كبيرا جدا ومهما جدا في تنشيط خيالي, وتحريض علي المحاكاة, لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبته قراءاتي المبكرة للسير والملاحم الشعبية, وألف ليلة وليلة وعيون كتب التراث الأدبي العربي التي كانت متوافرة, وبشكل تحريضي أيضا في مكتبة ابن عمي الأزهري. كان للكبار مطارحاتهم المسائية في أماكن متعددة, وكان لنا نحن الصغار مطارحاتنا النهارية التي نقلد فيها ما سمعناه بالأمس وأول أمس وأول أول أمس من صور ذات تراكيب غريبة تبعث علي الضحك. أما مطارحات الكبار فأشهرها وأكثرها شيوعا مطارحة القافية, حيث يختار المتطارحان موضوعا أو ظاهرة يتقافيان حولها, ومن فرط شيوع هذه القافية بين جميع أهالي البلاد شاعت في الحديث اليومي عبارة: بلا قافية, أحيانا تتخلل حديث الشخص الواحد بين كل عبارة وأخري, وكأنه يعتذر لمن يحدثه مقدما عما قد يبدو في كلامه من شبهة المزاح أو التنكيت. شاعت كذلك عبارة: إنت حتخش لي قافية؟ يقولها الشخص في استنكار ليقمع بها شخصا صفيقا أراد هدم الحواجز بينهما, وجعل البساط أحمديا, ولكن, يجمل بنا أن نقرأ تعريفا للقافية في الموسوعة الشعبية لأحمد أمين أحد أهم كبار علماء عصره جمع بين العلم والثقافة, كما جمع بين الثقافة الرسمية والثقافة الشعبية, فتجذر بذلك في أعماق الشخصية المصرية. يقول: القافية في لسان عوام المصريين نوع من المزاح, يقول أحدهم كلمة, فيرد عليه الآخر بكلمة تثير الضحك, ولكل حرفة من الحرف قافية, فقافية للمزينين, وللجزارين, ولكل شيء, ولذلك يحترسون عند الكلام الجد فيقولون بلا قافية, يريد أنه لا يمزح بل يجد, فمثلا يقولون: رحت له فوجدته واقف بلا قافية, وأعد بلا قافية, ونام بلا قافية, ومن أمثلة ذلك قول أحدهم في قافية النحو: كيسك إشمعني؟ ممنوع من الصرف. ومن أمثلة قافية الحلاقين: إنت في النصب.. إشمعني؟ أسطي. ومن قافية البلدان: لما يصحوك من النوم يقولولك.. إشمعني؟ أبوطور أبوطور إيدك في الخطف.. إشمعني؟ منصورة.. إلخ. ويجب أن ننتبه إلي أن الأستاذ أحمد أمين قد انتقي نماذج مهذبة متحفظة, وفقيرة في الخيال, وفي روح المرح لاعتمادها الذهنية دون التلقائية الخلاقة التي تجعل من التركيب الذهني خادما لسرعة البديهة الصادرة عن حس فكاهي موهوب, بحيث تتدفق الصور الفكاهية وليدة اللحظة لم تخضع لترتيب أو تأليف. ولو تذكرنا مطارحات سلطان الجزار وحسين الفار في برنامج ساعة لقلبك فسنجد فيها النموذج الأمثل للمطارحات المبهجة, بما فيها من ذكاء في التلاعب بالألفاظ لنحت مفردات ذات دلالات ساخرة, وفي بروزة المفارقات والتمهيد للمفاجآت اللاسعة علي أن مطارحات أبولمعة محمد أحمد المصري والخواجة بيجو في البرنامج نفسه كانت خيالا متقدا, كانت صور الفشر المسبوك والمغالي فيه مع الثقة والبساطة في الأداء إبداعا خالصا, وكان أبو لمعة هو أصدق من كذب, لأنه بهذا الفشر الخصيب الخيال قد عبر كاريكا توريا عن هذه الخصيصة في نسبة كبيرة جدا من الشخصية المصرية علي جميع أصعدتها الطبقية والثقافية: خصيصة الفشخرة الكذابة, والنخع, والادعاء لرسم صورة غير حقيقية للنفس في مجتمع ذكي يأكل الأونطة بمزاجه, لقد نجح أبو لمعة بصوره السريالية العبثية التي يفترض أنها مواقف مرت به, وأحداث عاشها بنفسه, وهي المستحيلة تماما, في الزراية بالفشر والفشارين, أأضحكهم علي أنفسهم بتضخيمه لمزاعمه, وضعهم في المرآة في مواجهة مع أنفسهم, وأذكر أيام رواج برنامج ساعة لقلبك أن صار أبو لمعة سلاحا لقمع الفشارين والمدعين والنصابين, إن استمر أحدهم في النخع جيء بسيرة أبو لمعة, فسرعان ما يبوخ الدعي, ويشعر أنه مكشوف فيلم نفسه.أما مطارحاتنا نحن أطفال ذلك الزمان, فكانت مسخرة تشعل أخيلتنا تلهمه صورا غريبة علي غرار ما نسمعه من الكبار الأذكياء الملهمين. كان الدخول في قافية علامة علي الذكاء, ودليلا علي الطلاقة واللباقة وصحوة البديهة, بل كان تدريبا علي تنشيط وتنمية البديهة, وتدريبا علي ركوب متنه الخيال, فالولد الذي يتقافاك سيتفنن في رسم صورة لك أو لأهلك... تضحك العيال كلهم حتي لو كانوا أصدقاءك, فلابد إذن أن تكون صورك أنقح منه. كان ذلك يتم بين الفسح, خاصة فسحة الغواء في المدرسة يغتاظ الواحد منا إذا أدركه جرس الحصص قبل أن يرد علي ما ناله من سخرية. حدث لي هذا ذات يوم, فمن فرط غيظي وانشغالي في تأليف صور ساخرة وضعت الكراسة فوق ركبتي تحت درج التختة, ورحت أدون كل ما يخطر علي بالي من صور, فيما المدرس مندمج في الشرح رايح جاي بين صفوف التخت, فاستراب فيما أفعل, فتمهل خلف ظهري ناظرا من فوق كتفي, وقرأ ما كتبت, فما دريت إلا ويده الغليظة تطبق علي قفاي, فترفعني واقفا, ثم تجرجرني إلي جوار السبورة... وأمرني أن أدير وجهي للحائط, وأنتظر ثم خرج مسرعا, ثم عاد بعد قليل مصطحبا حضرة الناظر, ثم شخط في وأمرني بأن أقرأ علي حضرة الناظر ما كنت أكتبه, وهو ينبح في شرحه, ركبني الذعر, فتسمرت, فلسعني بالخيزرانة, فحزمتني الضربة فصرخته, فصرخ هو الآخر: إقرأ يا حيوان, فصرت أتوجع, وأتألم وأبكي: إهيء...!.. إقرأ... إ... أبوك نزل بلاص المش ابتلعته دوده. إقرا... كمان.. إهيء..!... أبوك وقع في لمبة الجاز طلع متعلق في الشريط. حلو! إقرأ... إقرأ! إهيء... أبوك بياكل حاف والفسيخة متعلقة في شنبه. إ... كفاية!.. امشي يا واد هات ولي أمرك وتعاي. هكذا صرخ الناظر في غضب, موجها إلي المدرس نظرة كبرياء جريح, ثم صفعني علي مؤخرة رأسي بأطراف أصابعه, وخرج, فخرجت مهرولا وراءه أحتمي به من غدر المدرس الواضح في عينيه. أغرب ما في الأمر أنني انتظرت الولد خارج المدرسة لاستئناف المطارحة!. المزيد من مقالات خيري شلبي