«أنا عاوز أبقى صايع» هذه الجملة التى قالها صلاح الدين عاشور الذى قام بدوره علاء ولى الدين فى فيلم «الناظر» الذى تم إنتاجه عام 2000 مثلت تحولا مهما حدث لعالم الكوميديا فى مصر، وهو ما كان بدوره ممثلا لتحول مماثل حدث للطبقة الوسطى المصرية. فى الفيلم يعانى صلاح الدين ابن الناظر من وصاية وتسلط أبيه عاشور ناظر المدرسة العريقة التى تملكها العائلة وتتوارثها جيلا بعد جيل. كان أبوه يريده أن يكون «مؤدبا» و«ناجحا» لكنه فشل فى التعليم وبعد أن ورث المدرسة وجد نفسه فاشلا فى إدارتها أو فى التعامل مع الطلبة وحالة الفوضى التى تعترى المدرسة. وكان تفسيره للفشل أنه «مؤدب» وبالتالى قليل الحيلة، لذلك يجب أن يكون منحرفا و«صايع». ومن أجل تعلم ذلك لجأ إلى اللمبى، التلميذ الفاشل سابقا والبلطجى حاليا الذى يسكن حيا عشوائيا. ومن هذه اللحظة تكاد الكوميديا التى تفجرها الشخصية الثانوية «اللمبى» تطغى على حضور الشخصية الرئيسية أو يشكلان معا ثنائيا عندما يحاول صلاح الدين أن يتعلم الانحراف محاكيا اللمبى. كانت هذه اللمحة من السيناريو مجرد مؤشر على تحولات ما فى طرق السخرية والمزاح بين الناس سيطرت عليها تنويعات «حالة اللمبى»، هو ما يعنى ادعاء حالة هى بين غياب الوعى والحمق، بين البلطجة وقلة الحيلة، مع محاكاة لوعى الطبقات الشعبية تجاه الأفكار والأشياء الحديثة أو النخبوية أو«الراقية»، والتلاعب العبثى باللغة يكاد يكون فارغا من الدلالة وفيها تقليد لطريقة كلام معينة تميز بعض الفئات من هذه الطبقات. وهى الحالات والتنويعات التى أصبحت تعرف فى المعجم الشعبى ب«التهييس» و«الهرتلة». وبالتوازى شكل هذا المزاج تيارا داخل الدراما الجماهيرية، لا يقتصر على الأفلام التى قام ببطولتها الممثل محمد سعد وكان اللمبى فيها بطلا أو تم استنساخه فى أشكال أخرى قريبة، ولكن أيضا امتدت حالة الاستعانة بصورة «بطل العشوائيات» الذى يقدم حالة متوسطة بين العبيط والبلطجى فى أعمال كثيرة، سيد سائق الميكروباص فى «تامر وشوقية» وبعض التنويعات فى الأفلام التى كتبها بلال فضل منها حاحا فى «حاحا وتفاحة» وشخصيتا «حشيشة» ثم «توشكا» فى فيلمى خالد يوسف «حين ميسرة» و«كلمنى شكرا». واجه هذا النوع من الكوميديا سيلا من الانتقادات. إما المترفعة عن مناقشة تفاصيله أو التى تناقشها وتصفها بالانحطاط والسوقية والابتذال والتدنى. دفاع صناع هذه الدراما أن هذه الطريقة فى الكلام والمزاح موجودة بين الناس بل وبين شباب الطبقة الوسطى، لا يعنى فى نظر الناقدين والمهاجمين إلا أن أسلوب الكلام والمزاح عند الناس قد أصابه أيضا الابتذال والتدنى. ولكن ظلت علاقة هذه الكوميديا بنمط المزاح الذى انتشر بقوة بين شباب الطبقة الوسطى بعيدا عن التناول مع كل ما يعنيه ذلك من علاقة جديدة مختلفة بين الطبقتين. من المحاولات القليلة التى تتطرق لذلك ما قدمته الباحثة فيروز كراوية فى رسالتها التى نالت عنها الماجستير فى علم الاجتماع والأنثروبولوجى من الجامعة الأمريكية والتى تستعد لنشرها قريبا. تناقش الرسالة نموذجى «اللمبى» و«حين ميسرة» كنموذجين لأفلام العشوائيات فيما بعد عام 2000 وترصد علاقة الصور التى تقدمها هذه الأفلام بتصورات اجتماعية وأوضاع سياسية معينة. ترى فيروز كراوية أن معظم من أحبوا اللمبى ودفعوا التذاكر فى السينما ليحقق الأرباح الهائلة هم أبناء الطبقة الوسطى رغم أنها كوميديا مصنعة بشكل طبقى معين وتصوّر الطبقة الأفقر من سكان العشوائيات. وعلاقتهم لها أكثر من بعد: أولهم أن كليهما يعيش تحت نظام سياسى استبدادى. وهناك دراسات فى علم الاجتماع ترصد فى دول العالم الثالث أن النظم الاستبدادية طويلة العمر تربطها بشعوبها علاقة معقدة، كأنهم طرفان فى مركّب واحد لا يمكن فصله: « المحكومون يسخرون من السلطة ولكنهم أيضا يشبهونها فى كونهم استبداديين فى تصورهم لذاتهم التى تتضخم بشكل مبالغ فيه ومتوهم. مثل اللمبى الذى يقول طوال الوقت بشكل هزلى إن الزلازل لا تؤثر فيه وإن له فى الجبال علامات، ولكنه مغلوب على أمره ومطارد وضعيف أمام الشرطة والبلدية. من جانب ترى الطبقة الوسطى شيئا من وضعها فى هذه الشخصية، ولكن من جانب آخر لأن الشخصية تبدو خرافية وقادمة من مكان خرافى فهى بعيدة عنهم. حتى أبناء العشوائيات المتعلمين يرونه بعيدا عنهم. فيمكن للجميع أن يضحك عليه. لو كانت شخصيته قريبة ومشابهة لهم فستخيفهم أو تضايقهم هذه الحالة». عنف السخرية ينقل الدكتور شاكر عبد الحميد فى كتابه «الفكاهة والضحك» عن جون موريل العالم المتخصص فى دراسات الضحك أن سبب الضحك هو التحول السيكولوجى السار المفاجىء من الشعور بالعجز والنقص إلى الشعور بالتفوق والتمكن. وفى النظريات الكلاسيكية للفكاهة والكوميديا منذ أفلاطون وأرسطو أنها مبنية على وجود طرف أدنى وأقل مكانة أو ذكاء لنضحك عليه. حتى لو كان مجرد النقص مؤقتا مثل أن يتعثر إنسان فى قشرة موز أو يصطدم بالحائط، وهو ما يقوم به المهرجون فى أبسط أشكال الفكاهة. ترصد فيروز كراوية فى دراستها أن ما يسمى «أفلام العشوائيات» بعد عام 2000 قد صوّر فعلا سكان العشوائيات كالمهرجين :«كأن هناك صخرة وقعت على سكان هذه المناطق فأصبح ساكنها إنسانا مفككا تماما بلا معنى وبلا علاقات وبلا أمل. هناك أفلام تناولت سكان مناطق شعبية وعشوائية قبل ذلك مثل (الحريف) و(الكيت كات) و (سارق الفرح) وكان سكان هذه المناطق شخصيات داخل علاقات اجتماعية وعندهم مشاكلهم و أيضا طموحاتهم وأحلامهم. كانت هناك كوميديا ومفارقات، ولكن فى الأفلام الجديدة هناك تصوير هزلى فيه تأكيد لمسافة كبيرة جدا بين هؤلاء وبين المتفرج. والضحك هنا فيه نوع من «العنصرية الطبقية». هو ضحك فيه نوع من ممارسة العنف». ولذلك ترى فيروز كراوية أن هذه النظرة هى أساس قبول الكثيرين لممارسات قمعية أو عدوانية تجاه سكان العشوائيات لأنهم فى الأوقات الأخرى يصورون على أنهم خطر محتمل وسبب للفوضى فى المجتمع. يمكننا أن نضع هذه الملاحظة بجانب ملاحظات د.جلال أمين وغيره عن الفجوة التى تزداد اتساعا بين طبقات المجتمع المصرى. ووفق نظريات الفكاهة فكلما ازدادت الفجوة اتساعا كان كل طرف غريب عن الآخر ويصبح موضوعا لضحك أكثر حتى لو كان مخيفا ومصدرا للخطر فى وقت آخر. صورة الشىء الغريب المضحك والمخيف فى وقت واحد هى أحد أشكال توليد الفكاهة والسخرية، كما يذكر د. شاكر عبد الحميد، وهو ما يسمى بالبنية المسخية أو grotesque. والشخصية المسخية تحتوى على ملامح وعناصر قبيحة ومنفرة ولكنها تقدم بشكل هزلى ومضحك. تقول فيروز كراوية من خلال دراستها إن شخصية اللمبى تقوم بأشياء منفرة وقبيحة ولكنها مضحكة، قد ظهر مثلها فى دول أخرى تمر بأوضاع مشابهة، ففى الكاميرون ظهرت فى الثمانينيات وسط أزمة سياسية واجتماعية كبيرة رسومات كاريكاتيرية أبطالها شخصيات هزلية تقوم على الدوام بحركات منفرة. ولكن رغم هذه المسافة المعنوية الكبيرة التى تعطى للضحك معناه، هناك احتكاك وتداخل بين الطبقتين على أكثر من مستوى. قد يكون التعامل العادى أو أن يكون بعض أبناء الطبقات الوسطى صاعدين من طبقات فقيرة تسكن الأحياء العشوائية. ولكن دراسة فيروز كراوية تطرح أيضا أن هناك تبادل مصالح حدث فى مجتمع تقل فيه قيمة القانون: «كلنا نذكر مشهد اللمبى وأمه تودعه أثناء ذهابه إلى المدرسة وتقول له: كتبك معاك ومطوتك فى جيبك. المدرسة لم تعد مدرسة، كما أن القانون لم يعد يسيّر المجتمع، بل هناك قانون عرفى آخر والطبقات العليا تستخدم أسلوب البلطجة أو البلطجية أنفسهم لتسيير أمورها. ومن الطبيعى أن تحدث سيولة بين ثقافات الطبقات والفئات المختلفة». تهكم وجودى فى الشركة التى يعمل بها على عبدالرحيم أحيانا يقف أحدهم ويغير صوته قليلا وملامحه وهو يقول «خلاص يا معلمين! زمن اللل... انتهى. ماحدش فاهم حاجة!» ويعلق على قائلا: «مثل أى مكان فى مصر تحدث أحيانا مساخر وأوضاع غير مفهومة. وأعتقد أن هذه الطريقة فى السخرية هى إحدى طرق التعبير عن حالات مفهومة. الطبقات المطحونة أكثر من غيرها تعبر بشكل مبدع أكثر عن تلك الحالة غير المفهومة التى نعيشها. وعندما نمزح ونقلدها لا تكون تلك طريقتنا العادية فى المزاح ولكننا نلعب ونمثل هذا الدور. نستخدم تعبيرات سائق الميكروباص أو الباعة الجائلين أو غيرهم أو نقلد اللمبى». قد يكون فعلا هذا الأسلوب فى المزاح تعبيرا مناسبا لمتغيرات جديدة. ولكن هذا التعبير يصل أحيانا فى غرائبيته إلى مجرد لعب باللغة والصوت بدون دلالة محددة. جاين لوميل، التى تعمل فى مجال إعداد الترجمة الإنجليزية لأفلام عربية والعكس، بدأت تلاحظ هذا النمط من المزاح عندما كان عليها أن تترجم مجموعة أفلام كوميدية حديثة منها «اللمبى»: «عندما أصبح دورى أن أكتب ترجمة محددة ما يقول، بدأت أحيانا أنتبه إلى أنه لا يقول شيئا محددا يمكن أن يترجم أو أن الفكاهة تتركز فى الكيفية الغريبة لقوله لأى كلام وشكله وحركاته وليست فى الكلام نفسه». ولكن أحيانا تكون هناك دلالة ما للعب باللغة عند النطق الغريب ل«الكلمات الكبيرة»، فى فيلم «اللى بالى بالك» عندما يسكن عقل اللمبى فى جسد رياض المنفلوطى مدير السجن تتفجر المفارقة وأثناء خطابه أمام لجنة حقوق الإنسان تتحول عبارة حقوق الإنسان إلى «حروق الإنسان»، و«بعد النظر» إلى «ذات نظرة مبعدية»، بالإضافة إلى النطق الفكاهى للكلمات الأجنبية مثل Absolutely. بالمثل يقوم «توشكى» بالخلط بين الكلمات الكبيرة، التى تتناثر حول الناس بينما هى بعيدة بالفعل عن خيالهم ونمط حياتهم مثل قوله «تظمهر» التى تخلط «تظاهر» و«تجمهر» . الفكاهة تتفجر من المحاكاة الساخرة لكل ماهو متعالى من المصطلحات السياسية أو الثقافية، التى يشعر الناس أنها لا تعنيهم فى شىء أو أن مضمونها غائب عنهم أو من التعبيرات التى تنتمى إلى أسلوب حديث شرائح تتصنع «الرقى» باستخدام الكلمات الأجنبية. تضيف المترجمة جاين لوميل: «تحول (حقوق الإنسان) إلى (حروق الإنسان) و(حموم الإنسان) فيه حالة من الإحساس بغرابة هذه القيم والاستهزاء ليس فقط من غيابها بل منها هى أيضا واعتبارها فارغة من المضمون ولا مانع من السخرية منها، وهذا الوعى هو فى الحقيقة وعى كثير من الناس الذين لا مانع عندهم من انتهاك حقوق المجرمين على سبيل المثال إلا لو مسهم ذلك». قد يكون الأمر كذلك أو يكون اللعب بقواعد اللغة إشارة إلى أن حالة العبث والسخرية فى الواقع قد تجاوزت كل تعبير، فلا يجدى معه إلا مزاح يستحضر أو يتصنع حالة من التحامق أو غياب الوعى وممارسة نوع من التهكم الشامل الذى لا يوجه انتقادا محددا بقدر ما يسخر من الوجود كله. قد يكون وراء ذلك ما ينقله د.شاكر عبدالحميد فى كتابه من أن بعض الفلاسفة يرون «التهكم الوجودى» والفكاهة التى تسخر من كل شىء شكل من أشكال الوعى بالمتناقضات يرفض التسليم بالعجز عن فهمها بل يعترف أن الواقع ملىء بالتناقضات، فذلك الأسلوب من التهكم وراءه «عدمية» وسلبية، ولكنه وسيلة للاستمتاع بتناقضات الواقع وفى الوقت نفسه الوصول إلى حالة من الرضا، فعند التهكم والسخرية الفاقعة نضع مسافة بيننا وبيننا ما نسخر منه أو ننظر إليه من أعلى.