ارجعوني مرة اخري الي العوالم البدائية.. اتركوني اعيش علي حريتي وعلي سجيتي مع اولئك الناس الذين لم تلوثهم الحداثة والمدنية ومدن الكونكريت.. اين هو الفردوس الارضي, أهو في بناء مجتمع المساواة أم في العودة الي العالم البدائي؟!.. يتساءل ماريو باغاس يوسا الاديب المتمرد المولود في البيرو والحاصل علي الدكتوراه من جامعة مدريد والسياسي الذي خاض انتخابات الرئاسة في البيرو عام1995 ولكنه خسرها فغادر البلاد وحصل علي الجنسية الاسبانية.. تمكن من تجديد الرواية الواقعية الوثائقية.. يتناول في رواياته موضوعات العنف والنفاق الاجتماعي والفساد الاخلاقي ويعريها بقسوة.. كيف يكتب رواياته؟!.. يبدو انه يخطط لها مثل مهندس معماري طموح مغرم بالتصميمات المركبة.. وقد كتب رواية الفردوس علي الناصية الاخري من خلال حياتين.. حياة فلورا تريستان التي كرست وجودها للنضال في سبيل حقوق المرأة والعمال.. وحياة بول جوجان الراحل الذي اكتشف ولعه بالرسم وتخلي عن حياته البرجوازية ليسافر الي تاهيتي.. بحثا عن عالم غير ملوث بالاحكام المسبقة.. وماريو يوسا يكتب من خلال فلورا التي لا تري في الجنس الا اداة هيمنة الذكور علي النساء.. ونظرة جوجان الذي يعتبر الجنس قوة حيوية لا غني عنها في عمله الابداعي. .. ستموت كمتوحش في بلاد المتوحشين الجميلة تلك.. كان جوجان يتحدث الي نفسه.. ألا يهمك ان تري ابدا ابناءك واصدقاءك يا بول.. كان علي ظهر سفينة متوجهة الي تاهيتي ابحرت من مدريد وتوقفت في بورسعيد قبل ان تجتاز قناة السويس نزل يتجول بفضول في السوق المرتجلة.. الي جوار جسر النزول الي البر.. وفجأة وسط حشد اصوات وصرخات الباعة العرب واليونانيين والاتراك الذين يعرضون اقمشة وحليا رخيصة وتمرا وعطورا وحلويات بالعسل. اكتشف وجود رجل نوبي.. يعتمر عمامة مائلة الي الحمرة يغمز له ويريه مجموعة من الصور في حالة جيدة.. اشتري منه الخمس والاربعين صورة.. وابتسم وهو يتخيل رد فعل التاهيتات عندما يعرض عليهن هذه الصور العجيبة.. عاش جوجان عدة حيوات.. من حياة التحضر والرفاهية الي حياة البدائي الوثني المتوحش.. لهذا كله كان عليه ان يتبدل.. كي يتمكن من وضع تصور للوحة مثل بابي موي.. لم تكن اللوحة بحاجة الي لمسات اضافية ففيها تسطع صورة تشارل سبتيز الضوئية وتنبض.. الأنثي والطبية مستقلان أحدهما عن الآخر.. إنهما يتكاملان في طريقة جديدة لوحدة الوجود.. الامواه.. الاوراق.. الازهار.. الاغصان.. الزهور.. الصخور تتلألأ.. والشخص يمتلك جمود العناصر الطبيعية.. البشرة.. العضلات.. الشعر الاسود.. القدمان.. علي الصخور المغطاة بالطحالب القاتمة.. تنم عن احترام وتوقير وحب هذا الكائن لاعماق هذه الغابة السرية.. رغم انها مستعمرة اوروبية.. الا انها ظلت هكذا متوحشة وجميلة.. أجمل ما في هذه الرواية هو طاقة التمرد.. هو حالة العودة الي السلام الداخلي واعادة اكتشاف الذات والروح الانسانية في تجلياتها البكر.. في العودة الي البساطة هروبا من الحياة الاصطناعية التي اخترعتها الحداثة.. وبيكاسو نفسه كان يقول ان ثلاث دقائق في الرسم مع الاطفال اهم لدي من ثلاث سنوات في اكاديميات الفنون.. هو يريد العفوية.. التلقائية.. السذاجة الجميلة.. ومن اجل ذلك هرب جوجان الي تاهيتي ليرسم اعماله خارج صناديق النظريات والتقاليد والعادات.. خارج الزمن.. عندما تقرأ حيوات هؤلاء المبدعين ربما تتساءل اذا كانت تلك أزمتهم.. فما هي ازمة المبدع العربي ولماذا يعيد انتاج نفسه دائما.. ربما لانه لم يذهب الي تاهيتي. [email protected]