وأصل الحكاية أن الحاج عزوز الذي يسبق إسمه وصف أكبر أهل القرية سنا. يمدون عمره لحدود الأساطير. يقولون أنه كان واحدا من الذين حفروا قناة السويس سخرة. وأن قطرات من دمائه جرت في القناة قبل أن تلتقي فيها مياه البحرين الأبيض الشمالي والأحمر الجنوبي وأنه كان ضمن عساكر هوجة عرابي. وأنه كان يمر علي دنشواي وقت الحادثة الكبيرة. وأنه شارك فيالق المصريين الذين ساعدوا الإنجليز في الحرب العالمية الأولي. ثم أنه كان صديقا لأدهم الشرقاوي. وظل يتزاور مع بدران الذي لم يخن الأدهم أبدا. لم يبق سوي أن يقولوا أنه شارك خوفو في نقل الأحجار من الصعيد الجواني ليبني بها الهرم الكبير. عمر الجد عزوز طويلا. وأصبح مثل البيوت القديمة لا تسكنها إلا الذكريات. سمعهم الحاج عزوز لا يتكلمون سوي عن البطالة. كل واحد يصف نفسه بأنه عاطل. وأحب أن يحكي لهم حكاية وقعت بالأمس القريب عندما انشئت الوحدة المجمعة. لم يبق منها سوي أطلالها. وبقايا مبانيها ما زالت موجودة. مدرسة ومستشفي وبينهما مركز اجتماعي ومجلس قروي. طبعا غير المجلس البلدي الذي قال بيرم التونسي الكثير من أزجاله في هجائه. وظائف لا حصر لها نزلت علي البلد مثل رخات المطر. مدرسون ومدرسات واجتماعيون وأطباء وممرضات. الغرابوة سكنوا في مساكن المجمعة. ولكن أبناء البلد الذين عينوا في الوظائف بوسائل كثيرة. كروت توصية. تليفونات. زيارات يحمل من يقوم بها خيرات لم يعد لها وجود. كانت تخرج من القرية. ومقابلات مع مسئولين في المركز والمحافظة. وصلت الأمور للسفر إلي مصر أم الدنيا بالنسبة لرئيس المجلس القروي. الذي لا بد من صدور قرار وزارة بتعيينه.كل من تقابله أصبح موظف حكومة. ألم يقل أجدادنا إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه. ولكن تراب الميري أصبحت حصيرته واسعة مثل ليالي الصيف المقمرة أو التي كانت مقمرة. حتي من كانت عندهم وسائل رزق مثل الفلاحة وملكية الأراضي وأصحاب دكاكين البقالة. سعوا للحصول علي وظائف لها مرتبات مضمونة آخر الشهر. وتضمن معاشا تستمر في صرفه حتي يأتيك هادم اللذات ومفرق الجماعات. وسبحان من له الدوام. مع مرور الوقت نشأت مشكلة أين سيجلس الموظفون لو ذهبوا للعمل صباحا؟ وماذا سيفعلون لو بقوا في العمل من الثامنة حتي الثانية بعد الظهر حيث أوقات العمل. كل من يشاهد الذاهب إلي المجلس القروي ينكت متسائلا:' تقولشي' رايح الديوان وراجع من الديوان. يصلون للعمل وتبدأ المشاكل. عددهم أكبر من الكراسي. وإن أحضروها أين يضعونها. إلي أن جاء الحل. كيف يوقع الموظفون في دفتر الحضور والانصراف. وهو دفتر حكومي؟ صفحاته مرقمة. وكل صفحة مختومة بخاتم الجمهورية العربية المتحدة. الدائري. الذي يقال عنه وسط الناس: ختم النسر. ولا بد من التوقيع فيه مرة في خانة الحضور. وثانية في خانة الانصراف. هل يحضرون مرتين من أجل التوقيع بالحضور والانصراف؟ أربعة مشاوير في الذهاب والعودة. لماذا لا تكون هناك' فكيرة' أن يقوم واحد بالمرور عليهم بالدفتر؟ كل في مكان عمله أو سكنه لكي يوقع. بدلا من الزحمة؟ والتعب والذهاب والعودة. أليس المطلوب هو التوقيع بصرف النظر عن الطريقة؟ المسئول عن الدفتر كان يحصل علي أجره من الموظفين الذين يذهب إليهم. عندما يسلم كل واحد مرتبه باليد اليمني. يحصل علي نسبته باليد اليسري. بشرط ألا تعرف يده ماذا أعطت اليد الأخري. إن الحسنة لوجه الله يفسدها معرفة قدرها. كانوا يتكلمون عن مغامرات دفتر الحضور والانصراف. قالوا لو كان القرداتي القادر علي تلعيب حتي القرود موجودا. لجعل الدفتر يتحرك بدون الرجل الدفتر. ويذهب إلي من يريدون التوقيع حيث تواجدهم. ولذلك فإن مسئول الدفتر الرجل الدفتر فكر في التوقيع نيابة عن الآخرين. من يبصم يبصم له. من يختم أخذ منه ختمه. أما من يكتب بإسمه. حتي لو كانت أحرفه مائلة كما لو كانت تريد أن تشرب من قناية المياه الغويطة. فهو يقلد كتابة إسمه. وكفي الله الرجل الدفتر شر اللف والدوران في حواري البلد. وبعد حكايته فإن حفيده عبد العزيز يشكو له قلة حيلته وبطالته. مع أنه سمع جده عزوز يقول بمناسبة وبدون مناسبة أن اليد البطالة نجسة. وطهارتها لا تكون إلا بالعمل. كيف يشم الإنسان رائحة عرقه؟ تلك هي المسألة. أما عبد العزيز فلم يعد أمامه غير تعبئة الظل في زجاجات. أقوي ما في عزوز الرجل الأهتم لسانه. يتساءل أيهما كان أفضل: أكل ومرعي وقلة صنعا. أم البطالة الآن؟ قال له شاب متعلم: ما كان يسميه علماء الاقتصاد بطالة مقنعة. أوصلنا لما نحن فيه الآن. يطلق عليه' بطالة سافرة'. بطالة هنا وبطالة هناك. مقنعة أو سافرة لا فرق. عزوز يرفع أصابعه التي أصابها الزمن بالاعوجاج. وأظافرها تبدو مثل الحوافر. ويقول: المقنعة التي يتكلمون عنها كانت بطالة بفلوس. بطالة كريمة. تحافظ علي كرامة البني آدم. أما الآن وتوقف لسان عزوز عن الكلام المباح. عاد الشاب المتعلم الذي يكلم نفسه كثيرا. يقول: عندما يقف الأمس في مواجهة اليوم. من أين يخرج المستقبل؟! سؤال كبير. لم يتوقف أمامه واحد من شباب القرية. بعد أسئلة الأمس. وإجابات اليوم. لا يفهم كلامه معظم أهالي البلد. ينطق ما يقوله بالنحوي. ينصرف الناس عنه ولكنه يستمر في الكلام. قال الشاعر: - أن أطلقت رصاصك علي الماضي. اطلق المستقبل نيرانه علي حاضرك. المزيد من مقالات يوسف القعيد