هذا المقال ليس دعوة مبكرة لبدء إجازات الصيف والذهاب إلي المصايف للتمتع بهواء البحر ونسائمه; فما زلنا في شهر أبريل, ولا يزال أمامنا كثير من العمل لكي نؤديه, وعلي أي الأحوال فإن في أيامنا إجازات كثيرة. ولكن هذا المقال دعوة أخري تخص إعادة رسم خريطة الدولة المصرية كلها من جديد وتحويلها من دولة برية تقوم علي تلاقي الناس مع الصحراء والنهر; إلي دولة يتلاقي فيها البشر مع الصحراء والنهر والبحر في آن واحد. الفكرة قد يري فيها الخبثاء نوعا من الخروج عن الأجندة الحالية للنقاش السياسي في مصر, والذي تتقاطع معه أحيانا نقاشات اقتصادية واجتماعية, فتزدهر موضوعات تغيير الدستور أو تعديله, وتظهر كالبرق والرعد أحاديث عن رعب الإدارة المصرية, أما من يعرفون أكثر فهم يعربون عن الاهتمام بمستقبل مصر. ولكن أصحاب النوايا الطيبة سوف يجدون في الموضوع إضافة لما يجري الحديث عنه, بل إنه يعطي ما يجري من حوارات مضمونا ومحتوي يختلف كثيرا عما هو متاح حتي الآن; فتغيير شكل السلطة في مصر سوف يكون له مصداقية كلما تلاقي مع واقع جغرافي وسكاني له طبيعة ديمقراطية; والانتقال من الفقر إلي الغني لا يحدث ما لم تكن هناك موارد وتراكم في الثروة; والحصول علي المكانة العالمية لا يحدث ما لم تكن لمصر مكانة أعلي فيما يسمي التنافسية العالمية, لأن الواقع أيها السادة لم يعد قصة الدور الإقليمي كما اعتدناه, وإنما القدرة علي التأثير في الحياة العالمية بالمال والتكنولوجيا والسلع والبضائع والقيم الإنسانية. والحقيقة أن حكاية التنافسية العالمية هذه كانت هي التي فتحت الموضوع من الأصل عندما اتصل بي الصديق العزيز الدكتور حسام بدراوي الذي هو بالإضافة إلي مكانته العلمية في الجامعة وفي مجلس الشوري والحزب الوطني الديمقراطي, فإنه رئيس منظمة أهلية هامة هي المجلس المصري للتنافسية, أو هكذا أظن اسم هذه المنظمة, والتي تصدر تقريرا سنويا عن الحالة التنافسية لمصر والذي يحدد وفقا لمعايير موضوعية مع كل تقرير المكانة التي تقف عندها مصر بين دول العالم المختلفة. وفي العادة فإن الاتصالات التليفونية من صاحبي ليست للحديث عن أحوال الطقس, أو حتي الاطمئنان عن حالة الأولاد, وإنما هي دائما نقاش مستفيض عن الحالة المصرية, وكيفية ترقيتها; وخلال الأعوام الأخيرة كان موضوع التعليم وجودته هو ما تحمس له رجلنا ولديه دائما تفاصيل وأرقام تذهلني في كل مرة حول واقع الحال في البلد الحبيب. هذه المرة لم يكن الحديث عن التعليم, وهي حالة تحول غير عادية في الحالة البدراوية, ولكن كان عن موضوع لا يقل خطورة, وهو مفتاح جديد لزيادة تنافسية مصر وإعطائها فرصة غير عادية للانطلاق علي الساحة العالمية. وبالطبع فإن في الأمر قصة ربما يستحسن أن يحكيها الدكتور حسام بدراوي بنفسه, ولكن خلاصتها أن واحدة من نعم الله علي مصر وهي التي اعتبرها البعض لعنة في يوم من الأيام وجود قناةالسويس التي يمر منها قسم كبير من التجارة العالمية, ولكن كل ما تفعله مصر هو أنها تقوم بدور المعدية التي تدفع لها الرسوم وينتهي الأمر بعد ذلك. لكن الأمور لا يجب لها أن تنتهي عند ذلك, فبالإضافة إلي الرسوم فإن ما يمكن عمله من تصنيع وتخزين وإعادة تصدير وإضافة مواصفات علي السلع وتعديل أخري وتركيب وفك ثالثة واستقبال وإرسال سائحين, كل ذلك يجعل من ال170 كيلومترا التي تكون منطقة القناة عامرة بالسكان والإنتاج والتقدم. أضف إلي ذلك أن محافظات القناة الثلاث السويس والإسماعيلية وبورسعيد تقع في مقدمة المحافظات المصرية من حيث التنمية البشرية حيث ترتفع مستويات التعليم والدخل والصحة إلي مستوي يسمح لأهلها بالتعامل مع الطبيعة العالمية للمشروع. وأضف إلي ذلك أيضا أن منطقة قناةالسويس لها أعماق في سيناء من ناحية, فضلا عن العمق الصحراوي في اتجاه وادي النيل, وكلها تقع ضمن إطار شبكة من الطرق والمواصلات تعمل كلها بكفاءة من أقصاها إلي أقصاها في إطار ساعات محدودة. وهكذا رجع بي الخاطر إلي خمسة عشر عاما مضت عندما وافقت مصر علي استضافة ما كان معروفا بالمؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط الذي كان واحدا من تفريعات عملية السلام في ذلك الوقت. وكان الذائع في تلك الأيام أن الدول الكبري ترغب في إنشاء ما عرف بالمثلث الذهبي الذي يضم الأردن وفلسطين وإسرائيل في وحدة واحدة من التنمية والرخاء والتقدم. كان ذلك هو التصور, أو ما قيل وتردد في الأجواء السياسية, ونجم عنه شعور مصري بالاستبعاد, وأنها وهي التي تحملت عبء الحرب, وأعباء السلام, سوف تكون آخر من يستفيد عندما تأتي الأيام السعيدة. وكانت النتيجة أن قامت وزارة الخارجية المصرية, بقيادة عمرو موسي في ذلك الوقت, بتشكيل لجنة لبحث الأمر بقيادة السفير الصديق القدير رءوف سعد. وكان المفهوم الذي توصلت له اللجنة, وكان لي شرف المساهمة في صياغته, هو أن منطقة الشرق الأوسط تحتاج العديد من المثلثات الذهبية بسبب فقر سكانها وتواضع أحوالهم ومعاناتهم الطويلة من الحروب وانعدام العدالة. ومن ناحيتنا فإنه يوجد لدي مصر ما لا يقل أهمية, ولا إثارة للاهتمام, ولا أقل عائدا من الناحية الاقتصادية البحتة, وفي النهاية خدمة اقتصاد المنطقة والعالم, وهي منطقة قناةالسويس التي تصلح لكي تكون مرتكزا لحركة التجارة العالمية والإقليمية. ومن هذه الفكرة البسيطة انبثقت عشرات المشروعات للتكنولوجيا المتقدمة, والصناعات المتوائمة مع البيئة, ومناطق التجارة والتخزين, وباختصار تغيير مفهوم القناة من مجري مائي إلي منطقة اقتصادية, والدور المصري من معدية بحرية إلي نقطة ارتكازHUBB للتجارة العالمية. بعد مؤتمر القاهرة الاقتصادي لم يحدث الكثير, ولم تحضر كثرة من الدول مؤتمر الدوحة الذي انعقد في العام التالي, وانتهي المثلث الذهبي ولم يعد أحد يذكره, ولم يبق من عملية السلام كلها إلا ذكريات تعيسة عن حلم ضاع, ولم يبق من مشروع قناةالسويس إلا سلسلة من المشروعات المتفرقة التي كان منها إنشاء ميناء العين السخنة, وتنمية المنطقة بشكل أو آخر بطريق حديث يربط القاهرة بالمنطقة, ووضعت بداية لوادي التكنولوجيا, وهكذا مشروعات هنا أو هناك, ولكن المفهوم الشامل ذهب إلي طي النسيان, وإن كان هناك من يتذكره, فإنه ينفذه علي أقساط بعيدة ربما لن تصل إلي نهايتها إلا عند نهاية القرن. وعلي الأرجح, فإن التأخر في الموضوع يرجع لأسباب كثيرة, بعضها يعود لأننا مشغولون دائما بأمور كثيرة لا يقع في مقدمتها التنمية الشاملة, وبعضها الآخر يتصل بأنه رغم الحديث عن المستقبل أو كما يعبر عنه البعض ب مصر رايحه فين فإنه لا يوجد من هو علي استعداد للتعامل مع قضايا طويلة الأجل, أو تلك التي تستدعي التفكير فيما لا نفكر فيه وهو إعادة رسم الخريطة المصرية مرة أخري بحيث تتناسب الجغرافيا مع الديموغرافيا من ناحية ووصول السكان إلي البحر من ناحية أخري. وخلال العقود الثلاثة الماضية زادت المساحة المأهولة من الأرض المصرية إلي7% بعد أن كانت3% بالكاد, وهي بداية ثورة بكل المقاييس, أما الثورة فسوف تحدث عندما تصل النسبة إلي ما لا يقل عن20% من المساحة الكلية التي تبلغ1.002.45 كيلومتر مربع. يمكن ملاحظة بدايات تحقيق هذا الهدف في بعض المشروعات كما هو الحال في طريق العين السخنة القاهرة وطريق الكريمات بني سويف وطريق قنا البحر الأحمر; ولكن كل هذه مشروعات دولة, إذا سارت وفق طاقتها فإن تحقيق الأهداف المصرية سوف يستغرق بضعة قرون. وللأسف فإنه لا يوجد لدينا كل هذا الوقت, فعدد مواليد مصر خلال سبعة أشهر فقط يساوي عدد سكان مملكة البحرين, وفي ثمانية أشهر يصبح عدد مواليد مصر مماثلا لعدد سكان دولة قطر, أما إذا بلغ الزمن عاما ونصف العام فإن عدد المواليد يساوي عدد سكان الكويت. وفي حال استمرار معدلات الزيادة الحالية فإنه من المتوقع أن يصل تعداد السكان إلي104 ملايين نسمة بحلول عام2020 وهو ليس ببعيد, و160 مليون نسمة في عام2050 أي بعد جيل من الآن. والحل أن نبدأ الآن ليس فقط من خلال مشروع الطاقة التنافسية المصرية في قناةالسويس الذي تحدث عنه الدكتور حسام بدراوي, أو المثلث الذهبي المصري الذي عمل من أجله السفير رءوف سعد, وإنما من خلال نشر الكتلة السكانية المصرية في مناطق تنموية بحيث ننشئ عددا من نطاقات التنمية تماثل من حيث المساحة والسكان دولا في العالم مثل سنغافورة أو دبي أو غيرهما حول كل المياه الموجودة في سيناء, والبحر الأحمر في شلاتين ومرسي علم والغردقة والزعفرانة. أما جوهرة النمو العظمي فسوف تكون علي ساحل البحر المتوسط في محافظة مطروح حيث يوجد166 ألف كيلومتر مربع علي مقربة شارع من أوروبا اسمه البحر الأبيض المتوسط. والمسألة هي أنه إذا كانت ظروف سيناء التاريخية لا تسمح إلا للمصريين بالتملك, فإن كل المناطق الأخري لا يوجد أحد في العالم يستطيع نقلها من مصر إلي مكان آخر في الدنيا. وإذا كنا مختلفين حول التعديلات الدستورية, فهل يمكننا الاتفاق علي أن شعب مصر لا يستطيع الانتظار طويلا, علي الأقل بحكم تزايد عدد المواليد, حتي ننتهي من حواراتنا التي لا يوجد فيها كلمة واحدة عن مستقبل أولادنا وكيف سنوفر لهم حياة كريمة.