احتل صندوق الانتخابات مكانته في الحوار والشجار بين القوي السياسية المختلفة في الآونة الأخيرة, وظل هؤلاء يتنابذون بالآراء; بعضهم يؤكد أنه لا بديل عن الصندوق ولا شرعية إلا به, وآخرون يتحدثون أن الصندوق لا قيمة له طالما أن هناك حالة ثورية, وأن الشرعية الثورية تجب نتائج الصناديق, بين هذا وذاك صار الحوار والشجار ليعبر عن أحد أهم مظاهر عمليات الاستقطاب والانقسام في إطار تحركه مصالح كل فريق, ولم يحتكم أصحاب هذا الرأي أو ذاك إلي الأصول المرعية, والرؤي التأسيسية التي ترتبط بتعيين موقع الصندوق الانتخابي والعملية الانتخابية في مسار تراكم عمليات التحول الديمقراطي. الديمقراطية بهذا المعني تشكل مربعا غاية في الأهمية هي قيم كلية, ومبادئ نظامية, وأبنية مؤسسية, وقواعد إجرائية, هذا المربع يستند إلي بعضه البعض, ويرتكن إلي قواعد تأسيس في الطبعة الأخيرة للعملية الديمقراطية, وحينما نقول الطبعة الأخيرة فإن ذلك يعني أن الديمقراطية لم تتخذ شكلا واحدا, أو مسارا محددا. ولكنها ارتبطت بما يمكن تسميته الحكم الراشد أصولا وقواعد وممارسة, بما يجعل من صندوق الانتخابات وسيلة غاية في الأهمية ترتبط بخرائط تمثيل القوي السياسية, فضلا عن أنها تشكل مدخلا افتتاحيا ضمن مسار ديمقراطي, ومن ثم ظلت هذه الوسيلة تتحرك في مساحات الاختيار بين بدائل من الأشخاص والقوي ما بين انتخابات رئاسية, وانتخابات برلمانية, وانتخابات محلية, وانتخابات نقابية وانتخابات لهيئات ثقافية ومجتمعية, وبدت عملية الانتخابات ضمن هذا التصور أداة ومختبرا لحركة القوي السياسية وأوزانها, ترتبط بعمليات أخري مثل مسائل المؤسسية, ومسائل الشرعية, وقضايا المعارضة والأحزاب السياسية والقوي المختلفة, وإطار القوي المجتمعية المؤثرة والقادرة علي حمل مسالك التفكير والتدبير والتغيير والتأثير. والصندوق بهذا الاعتبار ليس صكا علي بياض, ولكنه عملية ابتدائية افتتاحية, وهو في حقيقة أمره إيذان للمنتخب أن يعمل ويؤدي بفاعلية, ومن ثم كانت الانتخابات قرينة الفاعلية والقدرة علي الأداء المؤثر والحقيقي, ومن هنا كان لابد من اختراع آليات للمحاسبة في الفترة ما بين كل انتخاب بحيث يمارس الشعب مسار رقابته, وفعالية متابعته وقدراته في المحاسبة وتكوين ما يسمي حركة رأي عام مؤثرة وضاغطة. ومن هنا فإن الأستاذ عصمت سيف الدولة ذلك الأستاذ العظيم قد ألف كتابا سماه الاستبداد الديمقراطي, وآخر عن مشكلة النظام النيابي; يعبر فيهما كيف أن موسمية الانتخابات يمكن أن تشكل مدخلا من مداخل الاستبداد لو لم تحط بمؤسسات وآليات للمتابعة والمراقبة والمحاسبة ما بين انتخابات وانتخابات. هكذا تملك الديمقراطية عناصر التصحيح الذاتي بما تملكه من قيم وأدوات وإجراءات, تشكل آليات ضاغطة ربما يكون منها الاحتجاجات والمظاهرات كتعبير يؤشر علي حركة الرأي العام وتوجهاته وأحكامه وفاعليته. وفي حقيقة الأمر إذا كان الصندوق من خلال نتائجه يخرج عناصر التكوين السياسي في إطار ترجمته لخريطة القوي والتمثيل لها, فإن عناصر ذلك التمثيل ليست إلا بداية لعمل وأداء واستحقاقات مهمة بما يحقق أصول القيمة العامة والمصلحة العامة, الصندوق بهذا الاعتبار مفتتح عملية الديمقراطية فأين العمليات الأخري التي تتابع وتتراكم وتشكل كيانا لمسار ديمقراطي صحيح لا يقف عند أعتاب الانتخابات ويري فيها المبتدي والمنتهي؟, بل إن الصناديق الانتخابية لا بد وأن تقترن بحال الخصوصية التي تفرضها الحالة الثورية, إن إحداث قدر من التوازن بين الصندوق والثورة من أهم عناصر التوازن الاجتماعي بعد ثورة عظيمة ومباركة هي ثورة الخامس والعشرين من يناير, تحمل بعضا من أهدافها ضمن شعاراتها من الحرية الكاملة والعدالة القائمة, ولاشك أن ذلك يعد من أهم عناصر التداخل بين شرعيتين الشرعية القانونية والدستورية من جهة والشرعية الثورية من جهة أخري, وهذا التراوح بين الشرعيتين فرض علينا مسارات في التسيير والتدبير ومع بيئة الاستقطاب والفوضي وتزايد العنف أدي ذلك إلي المزيد من التنابذ والشجار حول الشرعية الدستورية والشرعية الثورية, رغم أن الجمع بينهما ممكن ويشكل حالة متوازنة لنقيم للثورة حقوقها, ونقدم للقانون احترامه وسيادته. بين هذا وذاك يجب أن تكون استراتيجية العدالة الناجزة والعدالة الانتقالية الفاعلة من أهم مسارات التغيير الثوري والتغيير الدستوري والقانوني, بحيث لا يتصادمان أو يتنافيان أو يتناقضان, ذلك أن تساند عناصر الشرعية تلك يفرضها حال الفترة الانتقالية الذي يجمع بين الإطار القانوني للدولة والإطار الضروري للثورة. في ضوء هذا كله يجب النظر إلي الصندوق كعملية من العمليات الديمقراطية ووسيلة وأدوات كاشفة عن حالة التمثيل الفعلية من دون استبعاد لاستحقاقات تتعلق بالدولة القانونية والحالة الثورية, وإذا كان من المهم أن نتحدث عن رغبة هؤلاء الذين يعتلون السلطة في التعامل مع الصناديق بكونها جل العملية السياسية, فإن ذلك خط سياسي واستراتيجي لا ينظر إلي الصناديق إلا باعتبارها لعبة احترافية قد تهدف إلي تمرير السياسات وإلي الحكم والتحكم من خلال الصناديق وذلك تحت شعار لا يمثل الحقيقة كلها كله بالصناديق, ومن ثم علينا أن ننظر برحابة أفق للعملية الديمقراطية لصناديق أخري إن أردنا أن نسميها صناديق; مثل صندوق الانجاز, وصندوق السياسات, وصندوق الأداءات وصندوق الاتجاهات المتعلقة بالرأي العام الذي يتابع ويراقب ويحاسب, وصندوق الضغوط والجماعات الضاغطة لتحقيق المطالب الحالة والمشروعة. إذن الصندوق لابد وأن يتكافل ويتكامل مع صناديق عدة لكل صندوق مقياسه ومسارات تفعيله, وإن صناعة الصورة في إطار يصور احتراف الصناديق وحرفة الانتخابات أكبر خطر يمكن أن يقع عند الاكتفاء به والانكفاء عليه, إلا أنه في المقابل فإن إهمال الصناديق يجب ألا يكون مسوغا للتهرب من استحقاقات المعارضة بالاحتكام للصناديق وعمليات الانتخابات. إن الصندوق وفق هذه الرؤية ليس وثنا نعبده وإنما هو وسيلة تخرج عناصر التمثيل للقوي السياسية من الكامن والمستتر إلي الظاهر, وإلي سطح العملية السياسية, كما أن الصندوق لا يمكننا بأي حال أن نزيحه من الطريق باسم الثورة وإسقاط شرعيته, وإنني لأستغرب هذا الخطاب المتناقض من هؤلاء الذين يتحدثون عن إسقاط شرعية الصندوق بالنسبة لانتخابات الرئاسة الماضية والاحتكام إلي الصندوق تحت دعواهم بضرورة انتخابات رئاسية مبكرة,.ومن هنا فإننا نحذر الطرفين من التلاعب بالصناديق والشرعية التي تمثلها ضمن مسار عملية متراكمة ومتساندة, فإلي هؤلاء الذين يدعوننا ليل نهار إلي الصناديق أقول لهم: لا تركنوا إلي رغبة هذا الشعب في الاستقرار, أو يكون صندوق الانتخابات مدخلا لتمرير الأزمات, فإن غضبة الشعب لا تؤمن, وإلي هؤلاء الذين ينتقون من الصناديق ما يريدون به تحقيق مصالحهم الأنانية, وجب عليهم أن يعرفوا أن الديمقراطية تجعل لصناديق الانتخابات مكانا مأمونا في مسارها ووسيلة قياس لا يمكن التغافل عنها, وأذكر الطرفين بأن ذلك الاهتمام بصناديق الانتخاب يجب ألا ينسيهم صناديق الشهداء التي تمثل روح هذه الثورة المباركة, إنها عملية تقود إلي تمكين ثورة الدولة ودولة الثورة, فهل وعينا درس الصناديق أم مازلنا نحبس أنفسنا في الصناديق؟!. المزيد من مقالات د.سيف الدين عبد الفتاح