ما أشبه الليلة بالبارحة فقد اجتاحت المظاهرات و الاحتجاجات تونس اولي دول ثورات الربيع العربي عقب اغتيال شكري بلعيد أحد اقطاب المعارضة و اتهام السلطة الحاكمة, التي جاءت بالانتخابات بعد الثورة, في التورط في عملية الاغتيال. ليست مصر, ثاني الثورات التي لحقت بالثورة التونسية بعد شهور قليلة, بأفضل حالا. فلم تهدأ مظاهرات الغضب والرفض للسلطة القائمة, التي جاءت بدورها عبر صناديق الانتخابات, بل عمت جميع أرجاء الجمهورية لتحدث مصادمات واشتباكات يقع علي اثرها عشرات القتلي وآلاف المصابين وتدخل البلاد في دائرة من العنف يصعب التنبؤ بمداها. وفي الحالتين أي في مصر وتونس فان الاستقرار السياسي ما زال بعيدا والتوافق الوطني مأزوما والرضاء العام غائبا. وفي الحالتين أيضا كانت هناك انتخابات رئاسية وبرلمانات منتخبة وجمعيات تأسيسية للدستور وكثير من المظاهر الاجرائية التي تتطلبها الديمقراطية ولكنها لم تفض في النهاية الي المرجو منها وهو وضع البلاد علي أعتاب تحول ديمقراطي حقيقي. أما رد فعل السلطة ومرة أخري في الحالتين فلم يختلف كثيرا. اذ لم تر في كل ما يحدث سوي مؤامرة عليها, أو ثورة مضادة يقودها فلول النظام القديم في البلدين, أو طرف ثالث غير معلوم ولا يكشف عن هويته, أو معارضة مأجورة تسعي للتخريب والتدمير, أو تدخلات خارجية تعمل علي افشال تلك الثورات, أو اسباب أخري كثيرة بعيدة عن الأزمة الحقيقية التي تعيشها مجتمعاتهما وتعبر عنها بصرخات الغضب تتحول أحيانا الي أعمال عنف. ولا شك أن الخطوة الأولي في معالجة اي أزمة تكمن في ادراكها والاعتراف بها, وطالما لم يتم هذا الادراك أو الاعتراف, فلابد أن تخفق وسائل معالجتها. إن أحد الاسباب الجوهرية في هذا الاخفاق يرتبط بطبيعة السلطة التي اعتلت سدة الحكم بعد الثورة مع الاعتراف بأنها جاءت بالطرق الشرعية أي الانتخابات والتي تنتمي الي القوي السياسية الاسلامية باختلاف تياراتها والجماعات المعبرة عنها. فهي في النهاية ورغم تنظيماتها المحكمة وتمرسها الطويل في العمل السري وقدرتها علي البقاء في ظل ظروف القمع والاعتقال وغيرهما, إلا أن ذلك لم يدفعها سريعا للتحول الدرامي من واقع المعارضة غير الشرعية الي السلطة الحاكمة. لذلك فقد انشغلت بتدعيم سلطتها الجديدة أو ما يعرف بالتمكين وهو ما جعلها لا تنظر الي المشهد العام سوي من زاوية ضيقة وهي تلك المتعلقة بكرسي الحكم و الخشية من التآمر علي انتزاعه. فاذا بها بقصد أو دون قصد تلجأ الي نفس أساليب النظم المستبدة التي اسقطها الربيع العربي والتي كانت السلطة الحالية( وقت ان كانت في المعارضة) تكيلها بنفس الاتهامات وترفع ضدها ذات الشعارات التي ترفعها الآن الحركات الاحتجاجية والمظاهرات المعبرة عنها. فتلجأ الي القرارات الفوقية الاستثنائية مثل الاعلانات الدستورية المتتالية والقرارات الرئاسية المحصنة وسرعة اقرار دستور غير توافقي, ثم وهو الاخطر, اللجوء الي الحلول الأمنية وليست السياسية وفرض حالة الطوارئ مرة أخري والعجز عن تحقيق العدالة الانتقالية والدخول في مواجهات مع السلطة القضائية وغياب الشفافية السياسية خاصة في قضايا قتل الثوار بادعاء وجود معلومات تعرفها السلطة وحدها ولا تريد الافصاح عنها! وهو سلوك غامض يتنافي مع التقاليد الديمقراطية. هذه ظواهر تنطبق تماما علي الحالة المصرية. يضاف الي ذلك ابتعاد الرئيس تدريجيا عن مخاطبة الرأي العام مباشرة في الازمات الحرجة رغم ظهوره عقب انتخابه بصورة مغايرة تقربه من الثورة و أهدافها. لتتحول تلك الصورة الي صورة رئيس تقليدي يتحدث بشكل مقتضب أو يكتفي بأن تصدر مؤسسة الرئاسة بيانات باسمه, وهو أمر قد يكون مقبولا في الحالات العادية أو المستقرة, كأن يكون الرئيس منتخبا في ظروف غير ذلك الظرف الثوري أو أن يكون قد أمضي في السلطة زمنا طويلا وهكذا. إن ما يزيد المشهد تعقيدا تلك المرجعية الايديولوجية للسلطة المنتخبة. فالانتماء الي جماعة الاخوان المسلمين يلقي بظلال كثيفة علي الحكم الحالي وعلي صورة الرئيس, الذي أضحي في نظر الكثيرين رئيسا للاخوان وليس لكل المصريين بحكم التداخل بين الرئاسة ومكتب ارشاد الجماعة والذي يؤدي في النهاية الي نوع من ازدواجية السلطة. ولا يقف تأثير هذه المرجعية عند هذا الحد وإنما تؤثر علي العملية السياسية برمتها, خاصة بعدما اصطفت القوي الاسلامية كلها تقريبا, سواء من التيارات الأخري( سلفيين وجماعات جهادية واسلامية مختلفة) أو من المستقلين بخلاف استثناءات قليلة في جانب واحد لتدعيم السلطة الحاكمة تحت عنوان عريض هو الشريعة و الشرعية ليأخذ الصراع السياسي بعدا دينيا فتنطلق الفتاوي دون ضوابط لتحريم الخروج علي الحاكم أو تكفير المعارضة واهدار دمها, وهو الأمر الذي أصبح و اقعا في تونس بعد انتقال تلك الفتاوي من حيز الاعلام الي التنفيذ الفعلي. وقد لا يقف الأمر عند حادث واحد أو اكثر بل قد يصبح بداية سلسلة ممنهجة من الاغتيالات ستؤدي حتما الي ردود أفعال مضادة من الطرف الآخر, فمثلما توجهت المظاهرات والاحتجاجات الي الاعتداء علي مقارات حزب الحرية والعدالة حدث ايضا في تونس ضد مقارات حزب النهضة رمز السلطة في الحالتين. إن أهم دلالة مستخلصة من كل تلك الأحداث هي أن الانتخابات ليست هي المعيار الوحيد لضمان عملية التحول الديمقراطي. كما أن الاختلاف الجوهري بين الانتخابات في في الديمقراطيات الغربية مقارنة بالتجارب الديمقراطية الناشئة- كما في الحالة العربية- هو في مدي تقدم البيئة السياسية و المؤسساتية والثقافية والقواعد التي تجري من خلالها العملية الانتخابية. ففي الحالات الأولي جاءت الانتخابات لتتوج مسيرة بأكملها تحققت فيها شروط الديمقراطية علي جميع هذه الأصعدة, أما في التجارب العربية فالمسألة معكوسة, حيث تبدأ بالانتخابات قبل تحقق الشروط الأخري وهو ما يفسر تعثر مسارها الديمقراطي. وحتي في مسار التجربة الغربية لم تكن الانتخابات وحدها ضمانة كافية لعدم انتاج أنظمة ديكتاتورية او استبدادية. إذن الديمقراطية هي قيم و ثقافة و مؤسسات وقانون وسياسات ورضاء عام مثلما هي وسائل واجراءات و انتخابات. والأخيرة لا تعد حلا سحريا لتحديات التحول الديمقراطي مثلما هي ليست معيارا بذاتها للحكم علي نجاح أي تجربة و تأمين شرعيتها. المزيد من مقالات د.هالة مصطفى