ربح الإسلاميون في ثورات الربيع العربي, هذه حقيقة تسجلها اللحظة الراهنة ولا يخطئها أي محلل سياسي يتعامل مع الواقع كما هو وليس كما ينبغي أن يكون. فالانتخابات التي أعقبت تلك الثورات أثبتت أن القوي الإسلامية كانت هي القوي الأكثر تنظيما وقدرة علي الحشد والتعبئة واستقطاب الجماهير. كما إن الاسلاميين كانوا أكثر القوي السياسية قدرة علي عقد التحالفات والصفقات في المراحل الانتقالية مع السلطة المؤقتة, التي قادت تلك المرحلة بعد إسقاط النخب الحاكمة القديمة, لكونها شكلت البديل الجاهز الذي يمكن التعامل معه أو الاتفاق معه. كذلك نجح الاسلاميون في اظهار قوتهم وتماسكهم مقارنة بالقوي الأخري والأحزاب المدنية قديمها وجديدها والتي بدت منقسمة أو حديثة العهد بالتنظيم والعمل الجماهيري وبالتالي ضعفت قدرتها علي المنافسة. لم يقتصر الأمر علي الداخل بل فرضت القوي الإسلامية نفسها علي الواقع الإقليمي والدولي. حتي أن بعض الكتابات والدوائر الايرانية وصفت ثورات الربيع العربي بأنها ثورات إسلامية تستلهم تجربة الثورة الخومينية. ولم تكن بعض الدول الاقليمية الاخري أقل دعما للقوي الإسلامية. وتكرر الشئ نفسه علي المستوي الدولي. فقد أيدت الدول الكبري وعلي رأسها الولاياتالمتحدة وصول الإسلاميين إلي السلطة والتعاون معهم- ومن جانبها راهنت كثير من عناصر القوي السياسية والنخبة في الداخل- أي داخل المجتمعات العربية- علي إمكانية التحالف مع القوي الإسلامية في حال اندماجها في العملية السياسية في مرحلة ما بعد الثورات. هكذا نجح الإسلاميون وربحوا داخليا وإقليميا ودوليا في معركتهم الأولي, أي الوصول إلي السلطة عبر صناديق الانتخابات وليس غصبا وبرضاء دولي وترحيب إقليمي نسبي. صحيح أنه كانت هناك حالات أخري لنجاح الإسلاميين في الوصول إلي الحكم مثلما كان الحال في السودان, وافغانستان, والعراق لكن الحال والظرف التاريخي لم يكن هو الحال الراهن فالعراق ومن قبله افغانستان كانتا تحت الاحتلال والسودان كان يمثل حالة خاصة أو استثنائية, أما في مصر وتونس وغيرهما من حالات علي الطريق, فإن وصول الإسلاميين إلي السلطة جاء بعد ثورة وعن طريق الانتخابات الحرة وهو ما مثل شرعية مختلفة عن الحالات السابقة. ولكن سيظل النجاح والربح الحقيقي هو ما بعد ذلك أو ما ستسفر عنه التجربة بعد الحكم. فالوصول إلي القمة أسهل من الحفاظ عليها. ولذلك- وكما كان متوقعا- فقد بدأت تحديات مرحلة ما بعد الفوز تظهر علي السطح. إذ أن حالة التوافق التي سادت بين عناصر من النخبة المصرية والتي برزت في أثناء انتخابات الرئاسة تحديدا من خلال تأييد الرئيس مرسي في مواجهة الفريق شفيق, الذي اعتبر امتدادا ورمزا لنخبة الرئيس السابق مبارك, سرعان ما انتهت إلي انقسام واضح حول هذا الخيار, وباتت أقرب إلي صفوف المعارضة, مثلما وضح من خلال كتابات ومواقف العديد منها. كذلك ولأول مرة منذ اندلاع الثورة يبدو الاستقطاب حادا بين القوي الإسلامية وغيرها من القوي السياسية. ولاشك أن المظاهرات التي أدت إلي وقوع اشتباكات بين الطرفين تعد بداية وليست نهاية لهذه الخلافات المرشحة للتطور مستقبلا. وكانت أزمة بقاء أو عدم بقاء النائب العام في موقعه هي دلالة أخري علي هذا الاستقطاب. ففي مرحلة سابقة بدت هذه المسألة محل توافق بين القوي السياسية المختلفة إلا أن الأمر لم يعد كذلك. وأصبحت محاولة إقالته من قبل السلطة الحالية ممثلة في حزب الحرية والعدالة هو عنوان للهيمنة واعتداء علي استقلال القضاء. ولا يقتصر الأمر عند تلك الحدود بل إن قضية تقنين أوضاع جماعة الاخوان المسلمين التي ينتمي اليها الرئيس والحزب الحاكم أصبحت قضية محورية في النقاش العام. فالديمقراطية تعترف بوجود الأحزاب السياسية ذات البرامج المعلنة والآليات المعروفة وتخضع للمحاسبة وفق قواعد الشفافية المالية والإدارية والسياسية. والأمر ليس كذلك بالنسبة للجماعات السياسية التي تقف في منطقة رمادية بين الحزب من ناحية ومنظمات المجتمع المدني من ناحية أخري. وهو وضع جماعة الإخوان بعد أن صار لها حزب معروف ويعتلي السلطة الآن. وتتسبب هذه الازدواجية ليست فقط في تناقض المواقف السياسية بين الحزب والجماعة كما بدا في أكثر من موقف داخلي وخارجي وإنما- وهذا هو الأهم- في اتساع حالة عدم الثقة والتخوف من القوي الإسلامية ومصداقيتها في قيادة التحول الديمقراطي. إن كثيرا من القوي السياسية باتت تتهم صراحة تلك القوي بالتضحية بأهداف الثورة في الحرية, والكرامة, والعدالة الاجتماعية لمصلحة ما تسميه بمرحلة التمكين لقوة وحيدة هي القوة التي تعبر عنها فقط. و أن ما يحدث هو استبدال حزب حاكم قديم بآخر جديد يسعي للتحكم في جميع مفاصل الدولة والحكومة والمؤسسات السياسية والإعلامية. والأكثر من ذلك أنه لا أحد يري في أداء أول حكومة تأتي بعد انتخاب أول رئيس بعد الثورة أنها تختلف كثيرا عما سبقتها من حكومات يتسم أداؤها بالبيروقراطية وعدم القدرة علي التعامل مع المشكلات المزمنة. وفي السياق نفسه تأتي معركة الدستور والخلافات حول الجمعية التأسيسية لتضيف تحديات أخري لن يكون من السهل التعامل معها أو إيجاد شرعية توافقية حولها. كل ذلك يزيد من مساحة المعارضة المدنية للقوي الإسلامية في الحكم. بل ولم تعد تلك المعارضة هي نمط المعارضة الوحيد. إن ما يزيد المشهد تعقيدا هو تصاعد نمط آخر من المعارضة الإسلامية والتي توصف بالتشدد سواء أتت من صفوف التيارات السلفية أو الجماعات الراديكالية مثلما أظهرته تصريحات أيمن الظواهري( زعيم تنظيم القاعدة الحالي) الأخيرة والعنيفة ضد الحكم في مصر. إذن ربحت القوي الإسلامية وخسرت أيضا بوصولها إلي السلطة. وزيادة مساحة الربح أو الخسارة ستتوقف علي المواقف والسياسات المستقبلية إذا كان من المبكر الحكم علي هذه التجربة الآن. المزيد من مقالات د . هالة مصطفى