طرح موقف حركة النهضة الاسلامية الحاكمة الرافض لقرار حمادي الجبالي رئيس الحكومة وأمين عام الحركة لتشكيل حكومة تكنوقراط لتسيير شؤون البلاد الى حين إجراء إنتخابات عامة، العديد من التساؤلات حول مستقبل أولى بلاد الربيع العربي، عشية إغتيال المعارض الأبرز شكري بلعيد. ويستدعي موقف حركة النهضة الذي يركن إلى حاجة تونس لحكومة سياسية إئتلافية على قاعدة إنتخابات 23 أكتوبر 2011 "التي أوصلت النهضة الى الحكم، ذاكرة مليئة بالإنتقاد لآداء الحكومة ذات الطابع الإسلامي وفشلها في جمع شتات التونسيين عقب ثورتهم التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، وهو مايمكن أن يوصف بأنه إعادة إشتعال النار الراكدة تحت الرماد التونسي. وعلى الرغم من دعوة راشد الغنوشي مؤسس حركة النهضة الى "مصالحة وطنية" في تونس التي بلغ فيها العنف السياسي ذروته باغتيال شكري بلعيد، بالرصاص في حادثة غير مسبوقة منذ إستقلال البلاد عن فرنسا سنة 1956، إلا أن حالة إنعدام الثقة التي أنتجت أوضاعا مشتعلة بين النخب السياسية في البلاد تجعل من تلك الدعوة مجرد كلام للاستهلاك الإعلامي ومحاولة لتهدئة خواطر لن تهدأ إلا بالإعلان عن نتائج التحقيقات في مقتل بلعيد الذي أشار بأصابع الإتهام إلى تيارات الإسلام السياسي بأنها تفتح الباب للقتل السياسي قبل إغتياله بساعات. وفيما تبدو الوحدة الوطنية، التي تمر حتما بالمصالحة الوطنية الشاملة والفورية، قضية حياة أو موت في هذه الأوقات الحرجة التي تمر بها تونس، تؤشر ردود الفعل والتصريحات التي أعقبت إغتيال بلعيد إلى أن الأمور آخذة في التصاعد بإتجاه الانفلات الأمني وحالة عدم الاستقرار واللايقين والخوف من المستقبل . ووفقا لقراءة متأنية لما شهدته تونس عقب إنهيار نظام الرئيس زين العابدين بن علي، فإن المؤشرات تؤكد حتمية المصالحة الوطنية الشاملة والفورية، شريطة إقصاء المتشددين وإعمال نهج الحوار بهدف التوصل إلى أرضية مشتركة يمكن البناء عليها من جديد، حتى يتمكن شركاء الوطن التونسي أن يبعدوا شبح العنف السياسي الذي ينذر بحمامات دم لن تتوقف إلا بعد إحراق الأخضر واليابس. وإذا كان هناك من يسعى إلى إشعال تونس وصولا إلى تصفيات لخصومه السياسيين، بإعتبار أن تغييب الخصوم يعتبر حلا ناجعا لخلافات السياسة، فإن إبعاد مبدأ الثأر الذي يتبناه الغلاة من أقصى اليمين الإسلامي يمكنه مع مزيد من خطوات بناء الثقة الخروج بتونس من النفق المظلم الذي يمكن أن يتجاوز حدودها ليشعل حدودا أخرى . وتبرز قضايا بناء الثقة كحالة يمكن التعامل معها بمزيد من قاعدة الإرادة السياسية، وعلى سبيل المثال فإن مطالب التيارات الليبرالية واليسارية تبدو منطقية ومتاحة مثل تحرير جميع السجناء السياسيين، وإيقاف الملاحقات القضائية وتشكيل حكومة مصالحة وطنية تضم جميع الطيف السياسي من "التجمع الدستوري الديموقراطي" إلى "النهضة" مرورا بجميع أحزاب المعارضة وممثلين عن جمعيات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة. ورغم أن هناك من يرى أن تونس ما بعد ثورة 14 يناير 2011 السلمية التي أطاحت بنظام بن علي ، استيقظت فيها جميع الأنانيات الفردية والجماعية، الحزبية والجهوية، الدينية والدنيوية، إلا أن الوقائع على الأرض تؤكد أنه لم يعد بإمكان نخبة واحدة أو حتى مجموعة من النخب أن تحتكر السلطة والثروة و تقصي باقي النخب ، لأن النتيجة الحتمية لذلك هو الاحتراب ثم السقوط. وفيما اجتمعت مختلف الفعاليات التونسية من سياسيين وأوساط الحكومية على إدانة حادث مقتل شكرى بلعيد الذي اعتبروه "عملا إرهابيا " بامتياز ويمثل أول "اغتيال سياسي" تعرفه البلاد منذ الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011 ، إلا أن هذا الحادث الذي لايمكن إعتباره "عرضيا" يجب إحتواء آثاره عمليا لأنه "تهديد خطير" لعملية الانتقال السياسي التي ما زالت تشق طريقها بصعوبة كبيرة.. وأيضا ناقوس إنذار لما يمكن أن تتعرض له تونس من مخاطر على مستوى الاستقرار السياسي والأمني. فقد أثار خبر إغتيال الناشط في الجبهة الشعبية التونسية (إئتلاف لأحزاب يسارية راديكالية) شكري بالعيد عاصفة من الخوف والتوجس هزت الشارع التونسي، وخاصة النخبة السياسية والثقافية، وطرحت أكثر من سؤال عن مستقبل الانتقال الديمقراطي في بلاد التي فتحت أبواب الحرية لتجد نفسها بعد عامين فقط في مواجهة المجهول والرصاص ومسدسات كاتمة للحياة. ولعل الصدمة التي يعيشها الشارع التونسي اليوم ليست نتيجة صدمة الاغتيال فقط، بل لطبيعة التونسيين الذين لم يعرفوا الاغتيال في حياتهم السياسية، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام الخيار المناقض للمصالحة الوطنية وهو " باب الدم " الذي لايمكن إغلاقه على المدى القريب. ففي تاريخ تونس لم تسجل إلا حادثة إغتيال واحدة ذهب ضحيتها الزعيم الوطني صالح بن يوسف عام 1961، وظلت هذه الجريمة فضيحة في الحياة التونسية إلى اليوم، إذ لم ينس التونسيون ذلك، أما الحادثة الثانية فكانت في شهر أكتوبر الماضي عندما اغتالت مجموعة من رابطة حماية الثورة، المنسق العام لحزب حركة نداء تونس، لطفي نقض. فالمعارضة التونسية سواء منها اليسارية أو القومية لم تلجأ في تاريخها إلى ممارسة العنف في إطار صراعها السياسي طيلة العقود الأربعة الماضية ضد نظام بورقيبة، وضد نظام زين العابدين بن علي، بل كانت تلجأ إلى استخدام الوسائل النضالية السلمية، كالإضرابات الجماهيرية، والمظاهرات، والنضالات الديمقراطية. ولهذا السبب كانت المعارضة التونسية بشقيها اليساري والقومي، منسجمة كليا مع طبيعة المجتمع التونسي الذي يرفض ثقافة العنف، ويرفض أيضا الأساليب العنفية لفض التناقضات السياسية بين الدولة والمجتمع. وإذا كان وصول تونس إلى مربع الدم غير متوقع منذ عامين بسبب سلمية الثورة التونسية، إلا أن خلافات شركاء ما بعد الثورة وتباعد المسافات بسبب إختلاف الأيديولوجيات وتضادها في كثير من الأحيان، رفعت مستوى التوقعات بشأن دخول البلاد مرحلة من العنف السياسي قد يعززها شيوع التطرف وإحتلاله مواقع نافذة في المشهد السياسي والأمني في تونس. وفيما يبدو العنف السياسي مقبولا - بعض الشيىء - في حالة مثل تونس وغيرها من الدول التي أطاحت بالأنظمة الديكتاتورية، بسبب إستمرار منظومات الدولة العميقة للأنظمة المنهارة بالإضافة إلى صعود طبقات جديدة من المنتفعين بالثورات، تكمن الخطورة في تراكم مستوى العنف الذي يمارسه المتشددون بدعوى حماية الثورة، وهو ما خلق بيئة مناسبة للاغتيال السياسي. وبعيدا عن الاتهامات المتسرعة التي تنطلق من المشاعر، في ظل غياب تحقيق أمني وقضائي نزيه، فإن هناك حقيقة موضوعية قائمة في تونس، هى أن مرحلة التحول الديمقراطي التي فقدت هدوءها يجب أن تستمر في مسارها من خلال نهج المصالحة الوطنية، حتى لاتعيد الأحداث الدموية إعادة إنتاج العداء الشديد بين تيارات الإسلام السياسي واليسار الراديكالي هناك وهو الأمر الذي ينذر بكارثة. وتبقى سيناريوهات المستقبل في تونس مفتوحة على كل الإحتمالات، خاصة إذا إستمرت الممارسات القائمة على محاولات الاستفزاز والتي تنتج ردود أفعال عالية الصوت يمكن أن تصب في إشعال الوضع، كما أن التحريض على الكراهية، واللجوء إلى إستخدام العنف السياسي الممنهج والمنظم وفق مخطط سياسي مدعوم من جهات تريد تدمير ثورة الياسمين يمكن أن تذهب بتونس الخضراء بعيدا عن أي توقعات سلبية لتداعيات عمليات الإغتيال السياسي والدفع بالمسار الانتقالي إلى مربع الدم.