لم ينل خبر رحيل المفكر المغربى البارز محمد عابد الجابرى الاهتمام الذى يستحقه فى غالبية الصحف المصرية على الرغم من أنه كان أحد العلامات البارزة فى تاريخ الفكر العربى المعاصر. وجاءت شهرة الجابري بفضل' ثلاثية نقد العقل العربي' التي ألفها لدراسة المكونات والبني الثقافية واللغوية التي بدأت من عصر التدوين, ثم انتقل إلي دراسة العقل السياسي ثم الأخلاقي, وانتهي خلالها الي ابتكار مصطلح' العقل المستقيل' ذلك العقل الذي يبتعد عن النقاش في القضايا الحضارية الكبري لانه' استقال' من مهتمه وقد دفعت هذه الثلاثية الكاتب السوري الشهير جورج طرابيشي الي اصدار كتاب ناقد لها سماه' نقد نقد العقل العربي' يرد فيه علي الجابري وتطور النقاش بينهما وأخذ مسارا تعصبيا واضحا في سجال نشرته صحيفة' الحياة' منتصف التسعينيات. ويميل الكثير من المهتمين بتاريخ الفكر العربي المعاصر الي تصنيف أفكار الجابري في خانة' الاسلاميين المجددين' لانها انطلقت من فكرة مركزية حول اهمية العمل علي الاستفادة من التراث العربي ونقده وتثويره فضلا عن انطلاقه من موقف نقدي من العقل الغربي ورفضه للقياس علي ما أنجزته الحضارة الغربية التي تجاهلت من وجهة نظره منجزات العقل في مناطق جغرافية أخري خاصة في الشرق الاقصي ومصر, واجمالا كان الراحل في كتاباته يعلي من شأن ما أسماه' السلفية الوطنية' التي أنجزت نموذجها التحديثي المغاير للنموذج الغربي, واللافت ان الجمعيات الأمازيغية في المغرب اعتبرته أحد المنظرين الأساسيين لإبادة اللغة والثقافة الأمازيغية, رغم كونه أمازيغي أصلا, ومصدر هذا الاتهام ان افكاره انطوت بحسب هؤلاء علي الترويج المبالغ فيه للإيديولوجيا العروبية الا انه بالرغم من تلك الاتهامات لم يكن من انصار الوحدة العربية الاندماجية التي تلغي الخصوصيات القطرية, كما انه ينل رضا الجماعات الأصولية المتشددة التي هاجمت بشده كتابه' مدخل إلي القرآن الكريم', الذي تضمن فصلا بعنوان' جمع القرآن ومسألة الزيادة فيه والنقصان' وتعرضه لقضية اشكالية بشأن جمع القرآن الكريم في زمن عثمان أو قبل ذلك, لانه رأي ان الذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين, غير ان افكار الجابري وجدت اهتماما كبيرا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي علي خلفية المعركة الفكرية الشهيرة التي خاضها مع المفكر الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة وهي معركة نشرت وقائعها علي صفحات مجلة' اليوم السابع' التي كانت تصدر في باريس ثم صدرت في كتاب بعنوان حوار المشرق والمغرب وجد رواجا كبيرا وصدر في عدة طبعات. وتكمن أهمية هذا الكتاب من انه يحدد الملامح الرئيسية لمشروع الجابري ويرسم مسارات واضحة للتعامل معها بفضل اللغة البسيطة التي كتب بها وتعرض فيها لأمور غاية في الاهمية لا تتصل فقط بحاضر العقل العربي وانما بتاريخه وماضيه وسعيه نحو المستقبل ومن ثم يمكن اعتبار ما جاء فيها أقرب للوصايا الفكرية أو الخلاصات إن جاز التعبير. وأولي النقاط التي أثارها الجابري في نقاشه مع حنفي حاجة القوي الفكرية والسياسية الي الانضواء في صيغة جبهوية لمواجهة ما أسماه' المصير المشترك' لافتا الي ان الخلاف الايديولوجي شيء مشروع ويفرضه الواقع والمصالح ويجب ان يحميه القانون ولكن عندما تكون القضية المطروحة قضية قومية وطنية مثل النهضة والتنمية والعقلانية والديموقراطية فلابد من حد أدني للعمل المشترك لانه لا توجد قوي ايديولوجية في العالم العربي تستطيع وحدها انجاز تلك المهام. وأذكر ان ما ردده الجابري بشأن موقفه من العلمانية كان من أكثر نقاط الحوار إثارة للجدل فقد رأي انه من الضروري استبعاد' شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديموقراطية والعقلانية فهما اللذان يعبران من وجهة نظره عن حاجات المجتمع العربي, فالعلمانية بمعني فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الاسلام لانه ليس فيه سلطة دينية( رجال الكنيسة) وهي فكرة وقف ضدها تماما جورج طرابيشي معتبرا انها دليل علي توقف النخبة العربية عن التفكير ومؤكدا ان الجابري لا يختلف في معالجته لهذه النقطة عن معالجات السلفيين ذلك علي الرغم من الاشارات التي أوردها الجابري في مؤلفاته بشأن شكل الدولة في الاسلام فهي بنص كلامه من الأمور التي تركها الاسلام لاجتهاد المسلمين يتصرفون فيها حسب ما تمليه المنفعة والمصلحة وحسب مقاييس كل عصر, لذلك لم يكف الراحل ابدا عن الدعوة لاقامة الديموقراطية وبناء دولة المؤسسات ورفض إلهامات' الزعيم المنتظر' الذي قد يأتي ولا يأتي.