الأعمال بالنيات، وأتمني أن يحاسبني القراء علي عمود الأسبوع الماضي حسب نيتي الحسنة تجاه "ألف ليلة وليلة" طاقة الحلم الجبارة في تراثنا، التي تستحق أن نحتفل بها لا أن نطاردها. هذه النية، ربما لم تصل إلي الكثيرين بسبب عيب طرأ علي لوحة مفاتيح الكمبيوتر، جعل حرف التاء يغيب عن كلماتي، ولم ينتبه الزملاء المصححون، كسلاً أو ثقة فيّ، فكان المقال أقرب إلي كتابة التعاويذ والأحجبة، نسأل الله أن تنتفع بها ألف ليلة وتحميها من قاطعي طرق الثقافة، الذين لا يوفرون نصًا أو شخصًا لا يتبع رؤيتهم ولا يمتثل للضيق الذي يحبون أن نعيش بين أسواره. الأسبوع الماضي فقدنا المفكر المغربي المرموق محمد عابد الجابري، الذي فوجئت بمواقع إلكترونية تحمل صفة "إسلامية" تنشر خبر رحيله بصيغة تكشف عن أكثر سلوك بشري يدعو إلي الاستهجان في أي دين أو ملة: الشماتة في الموت! حمل الخبر عنوان "هلاك الجابري" انحطاطا بالخلاف الفكري إلي مستوي العداء والشماتة الشخصية التي نهي عنها الإسلام ويأنف منها العربي، حتي عندما يستشعرها تجاه عدوه. لكن هذه الشماتة مثلت للحظة واحدة صدمة للعين، لكنها خلفت حزنا، لأنها بالمصادفة تقول شيئا حقيقيا عن مصائر مشروعاتنا الفكرية التي تهلك دون أن تبلغ هدفها. ومن المفيد أن نتأمل أسباب هذه المحنة بطريقة جديدة بعيدًا عن تعميمات محمد عابد الجابري بنية العقل العربي غير التاريخي، الذي يعشق الإسناد ويعيش في الماضي بدلاً من ابتكار الحلول من واقع اللحظة الحاضرة. نحن أمام حقيقة واضحة تؤكد "هلاك مشروعاتنا الفكرية" وعدم بناء اللاحق منها علي السابق، علي الرغم من أن العلم والفلسفة وكل أشكال التفكير المنطقية تراكمية في ثقافات الغرب الأوروبي والشرق الهندي والصيني والياباني. لم نبن من أشكال التفكير المنطقية في ثقافتنا العربية لدي المعتزلة والأشاعرة، ولم نطور شيئًا من التصوف يتسلل إلي حياتنا كما تسللت روح التفاني البوذية في الشيوعية الصينية. ولم تثمر مرحلة العافية التي مرت بها الدولة العربية في الأندلس وفلاسفتها أرضية فكرية تدوم أو تمثل أرضية لسلوك البشر. وإذا اتخذنا من لحظة الشك الديكارتي التي استنبتها طه حسين في أول العقد الثالث من القرن العشرين بكتابه "في الشعر الجاهلي" لحظة حداثة تعيد الارتباط بالفلسفة الغربية، فإننا لم نر بناء يرتفع فوقها، بل موجات أقرب إلي الغضب والثورة علي التخلف كما في مشروع عابد الجابري، الذي كان موضة القراءة بين أبناء جيلي في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. فتحت هجائيات الجابري للعقل العربي والذهنية العربية بابًا للقصاص من ترد سياسي أنتج هزيمة يونيو التي لم يمحها النصر الخاطف والمجهض في ثلاثة وسبعين حتي بدأ تراجع ما بعد كامب ديفيد. وأظن أننا وجدنا في قراءة الجابري ما هو أبعد من ذلك. الذكور منا كانوا يبرزون غلاف كتابه بأياديهم بطريقة استعراضية بارزة، وتحتضنه الإناث علي صدورهن المتطلعة للحياة مثلما احتضنت سعاد حسني حقيبتها. بالنسبة لطلاب الجامعة كان الجابري مثل شارة أو علامة لتنظيم مصري أعلن تحرره من الاكتفاء المصري التقليدي وبدأ البحث عن البعد العربي، وليس غير هذا المفكر القادم من أقصي المغرب دليلاً علي هذا الانفتاح والاجتهاد في الوصول إلي مصادر غير مصرية للفكر. كان شهادة لقارئه، لكن مشروعه والجدل الذي خلقه مع مشارقة مثل حسن حنفي وجورج طرابيشي هلك مثلما هلكت مشاريعنا الأخري، بل إن مقولة الجابري، ربما تكون هلكت منظورًا إليها في مرآة إدوارد سعيد في الاستشراق، ثم علي يديه وأيدي تلامذته فيما بعد الكولونيالية.