من فلاحة بسيطة في إحدي قري الدقهلية إلي كوكب الشرق, رحلة مليئة بالكفاح والإصرار علي التفوق حتي نهاية المشوار الذي انتهي بيوم رحيلها في3 فيراير1975, وسط الحروب والصراعات والملوك والبسطاء كانت أم كلثوم تغني لمجد الجميع ولرفعة بلدها التي جعلت منها معجزة تتحدث عن كل معاني الفخر والاعتزاز بمصريتها الفرعونية- القبطية- الإسلامية, فضلا عن ما أنشدته بما اهتزت له مشاعر العرب شرقا وغربا علي مدي عشرات السنين, وربما كان ذلك هو سر حضورها الطاغي حتي الآن رغم مرور38 عاما علي رحليها, لتظل معنا تسكن بيوتنا ومشاعرنا, ومن فيض غنائها نستلهم أجمل قصص الحب والعشق والغرام ومن سناها العطر نسطر أروع ملاحم الوطنية في كل تجلياتها وآخرها ثورة25 يناير حين ظلت الجماهير تردد أغانيها الحماسية في قلب الميادين. ولم تكن سيدة الغناء العربي التي بدأت حياتها الفنية في عشرينيات القرن الماضي مجرد إمرأة ملهمة, ذات موهبة وذكاء واهتمام بالآخرين من أجل الخير, بل أن هذا المزيج الذي نادرا ما يكون متوفرا, جعلها أسطورة الشرق ورمزا للوحدة العربية, فضلا عن كونها ملكة متوجة علي عرش الرومانسية في الزمن الجميل, ومرور بالحاضر الأليم, وعبورا نحوالمستقبل رغم التنوع الشديد للأغنية العربية المعاصرة وارتباطها بفنون الفيديو كليب اللاهث علي جناح الإبهار بفعل التكنولوجية الحديثة التي جعلت الأغنية مصحوبة بمساحات مشهدية هائلة قوامها المثيرات الصارخة, ومع ذلك فقد ظل المستمع العربي علي درب سيرته الطربية الأولي, بدليل هذا الإقبال الواسع حتي الآن علي سماع أغاني كوكب الشرق, والإنتقال من الحالة البصرية للأغنية العربية المعاصرة إلي الحالة السمعية الخاصة التي تتحلي بالسلطنة والشجن الجميل. والحقيقة الراسخة رسوخ الأهرامات في مصر والشرق كله أن ظاهرة أم كلثوم تؤكد من جديد أن الفن الصادق لا يحتاج إلي وسيط, ولا يحتاج إلي جوائز دولية سخيفة ومغرضة كتلك التي يهلل لها البعض الآن من جيل الأغنية الحديثة, والتي تسببت بصخبها وضجيجها في تجريف أرض الأغنية الطربية وأهالت التراب علي القيمة والمعني في ظل مايفرض علينا من أسماء هابطة تطل علينا من القنوات الفضائية ليل نهار, وتنعق كالغربان دون أية ضوابط أوالتزامات فنية وأخلاقية حقيقية. يقول أفلاطون: من حزن فليستمع للأصوات الطيبة, فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها, فإذا سمعت مايطربها اشتعل منها ماخمد, وتلك علي مايبدو حقيقة أدركها الجمهور بالإقبال علي سماع أم كلثوم في أزمنة الحزن والتردي, وأدركتها الفضائيات عندما استحضرتهاmbc مصر من الماضي علي المسرح بخدعة تكنولوجية في حفل افتتاح قنواتها من فوق قمة قلعة صلاح الدين, وعلي ذات الدرب من الحنين خاطب النجم محمد منير حنجرتها في ديو جديد مؤخرا ليغني معها رائعتها ياحبنا الكبير في محاولة جريئة منه لإشعال ماخمد من نور هذا الوطن الذي يحاصره الحزن ليلا ونهارا بفعل الأحداث المؤسفة. ربما لا توجد شخصية في عالم الغناء العربي الآن قد حازت من الشهرة والتقدير والإحترام مثلما حصلت عليه سيدة الغناء العربي, فعبر مسيرة فنية امتدت لأكثر من نصف قرن من الزمان استطاعت أم كلثوم بثبات وبمثابرة وبجلد وبما تملكه من قوة كهرومعنوية أن تؤسس لنفسها مكانة الصدارة في وجدان أمة بأثرها, وهو الأمر الذي جعل حتي ألد أعدائها إسرائيل- تضعها في مصاف العظام وأطلقت اسمها مؤخرا علي أحد شوارع القدس, بعد ما أدركوا تغلغل غناء أم كلثوم في الوعي الإسرائيلي وأن تغزو عواطفه, حتي تلاة الترانيم حزانيم الذين أنشدوا ترانيمهم الدينية علي إيقاع أغاني أم كلثوم, وهو ما استقطبت المزيد من المعجبين والمعجبات من الجيل الذي ولد بعد رحليها عام1975, مخلفة وراءها منبعا غنيا ينهل منه الكبار والصغار, العلمانيون والمتدينون, كل بأسلوبه الخاص, علي حد قول الكاتبة ليندا منوحين عبد العزيز في مقال لها منذ أيام يوم3 فبراير الماضي في ذكري رحيلها. واذا كانت أم كلثوم قد شهد لها الشرق والغرب كأسطورة غنائية يصعب تكرارها, وهناك العشرات من الكتب والأفلام التسجيلية والتمثيليات والمسلسلات قد صدرت عنها كظاهرة معجزة وعلي الرغم من أنها وصلت إلي قمة أدائها فيما بين الأربعينيات والخمسينيات ولهذا سميت تلك الفترة ب عصر أم كلثوم الذهبي, إلا أنها ظلت طوال نصف قرن من الزمان راسخة في عقل ووجدان أمتها العربية, حتي أن شارل ديجول بعث لها بمبعوث من قصر الرئاسة إلي فندق جورج الخامس, وقال لها وهو يحيها لوجودها في باريس: أنت ضمير أمة, لأنها كانت رمزا للأصالة والمعاصرة في تنمية المشاعر العاطفية والوطنية, وستظل في حاضرنا ومستقبلنا شمس الأصيل التي لاتغيب ونحن معها نغني: علي باب مصر, مصر أجل إن ذا يوم, نشيد الشباب, ثوار ثوار, منصورة يا ثورة أحرار, بأبي وروحي, يا مصر إن الحق جاء, كان حلما فخاطرا, بعد الصبر ما طال, حولنا مجري النيل أنشودة الجيش, والله زمان يا سلاحي, أصبح عندي الآن بندقية, ما أحلاك يا مصري, أبقي, قوم بإيمان وبروح وضمير, مصر التي في خاطري وفي دمي, حق بلادك, صوت الوطن, فرحة القنال, يا جمال يامثال الوطنية,إنا فدائيون, يا سلام علي الأمة, بالسلام احنا بدينا, إلي آخر تلك الروائع الخالدة التي ماتزال تدفعنا نحو النور الذي لن يخمد أبدا. [email protected]