كنا نباهي عبر التاريخ بأن مصر دولة عريقة تتمتع بدرجة عالية من التجانس السكاني والانصهار البشري والاندماج الاجتماعي, ولكن مرت علي مصر أحقاب متعاقبة. ووفدت إليها تيارات دينية وسياسية جعلت ذلك الذي كنا نفخر به لم يعد قائما علي النحو الذي عرفناه عبر العصور, نعم.. لقد كان في مصر دائما شأن كل الأمصار فقراء وأغنياء, مسلمون ومسيحيون ويهود. وكنا نتندر أحيانا علي اليهود باعتبارهم يفضلون الحياة في جيتو منعزل ولا يرحبون كثيرا بالذوبان في شخصية الأمة المصرية شأن وضعهم في كل أنحاء الأرض حيث يفضل اليهود العزلة والاحتفاظ بسمات بشرية وشخصية ذاتية تميزهم عن غيرهم, فقد كانوا لا يتحمسون للزراعة ولا يقبلون علي الصناعة ولكن تجذبهم شئون المال والتجارة, وها نحن اليوم في مصر نشعر بأن شيئا ما يحدث في هذا الوطن الذي التقت علي أرضه الثقافات وتتابعت الحضارات وظل دائما سبيكة منفردة وكأنه نسيج وحده, ها هي مصر تعرف الآن الجيتو الفكري والسياسي والديني, فهذه جماعات سلفية, وتلك مؤسسات قبطية, وثالثة تعبر عن تنظيمات تسمي نفسها ليبرالية هروبا من تعبير علمانية الذي اكتسب سمعة سيئة في العالمين العربي والإسلامي! ولقد حضرت مؤخرا اجتماعا للمجلس الأعلي للثقافة برئاسة وزيرها ومعه أمين عام المجلس وبحضور رئيس مجلس الوزراء الذي استهل حديثه بالتعبير عن سعادته لزيارته البابا تواضروس في الكاتدرائية المرقسية للتهنئة بعيد الميلاد المجيد ولكنه لاحظ ومعه كل الحق أن الاحتفالات حبيسة أسوار الكنيسة ولا تنعكس علي بهجة في الشارع أو فرحة لدي الجميع, وكنت أول المتحدثين بعده فعلقت علي ذلك بأننا قد أصبحنا نشعر بالقلق من المشهد المصري الحالي الذي يضعنا أمام جزر منعزلة يضرب كل منها بسهم في اتجاه مختلف مع أنني أزعم أن الشعب المصري كان دائما موحدا متحدا ولكن هاهي المصالح المتضاربة والصراعات القائمة والفتن الوافدة تترك بصماتها علي جبين مصر الذي كان دائما ناصع البياض نظيف السريرة, والآن دعنا نبسط العوامل التي أدت إلي المشهد الحالي بانقساماته واختلافاته علي نحو غير مسبوق في تاريخنا الوطني ونوجز ذلك فيما يلي: أولا: إن التعليم هو الذي يملك التأثير الأقوي في الانصهار الاجتماعي وتذويب الفوارق وصاحب المسئولية التاريخية عن وحدة الشعوب ثقافيا واجتماعيا, وقد كان التعليم المصري شيئا نعتز به من قبل فكان الفصل الدراسي الواحد يضم المسلمين والمسيحيين واليهود, الأغنياء والفقراء, وأحيانا البنين والبنات, فانصهر المجتمع المصري في بوتقة واحدة وأصبحنا أمام مشهد يتخرج فيه أحيانا من الجامعة الواحدة أو المدرسة المشتركة ابن الخفير وابن الوزير بغير تفرقة, الملتزم دينيا والمستغرب فكريا بلا تمييز أيضا, ولكن الدنيا تغيرت والأحوال تبدلت فأصبح لدينا تعليم عام وتعليم خاص, تعليم مصري وتعليم أجنبي, تعليم ديني وتعليم مدني, لذلك خرجت علينا مجموعات غير متجانسة بسبب تباين المنطلقات التعليمية وتعدد الخلفيات الثقافية واختلاف البيئة الدراسية. ثانيا: إن الجندية هي ذلك الشرف الذي يحمله المواطن الصالح بكل الاعتزاز والفخار, وهي أيضا بوتقة تنصهر فيها خصائص الأمة الواحدة إذ يقف في طابور مشترك: الأغنياء والفقراء, المسيحيون والمسلمون, أصحاب الانتماءات الدينية وذوو الاتجاهات الأخري, إنها تضم كل من يحمل الجنسية المصرية بغض النظر عن أصوله العرقية أو عقيدته الدينية أو مستواه الطبقي, لذلك فإننا نقول دائما أن التعليم والجندية هما مفتاحي الوطن الواحد والشعب الواحد علي نحو يحفظ السلام الاجتماعي ويحمي مؤسسات الدولة ويرفع من قدر المواطن. ثالثا: إن الطائفية داء لعين وفد علي مصر في ظل بيئة ثقافية متهالكة وظروف اجتماعية محتقنة فقد كنا لا نعرف ونحن أطفال صغارا من هو المسلم ومن هو المسيحي؟ ولا يعنينا ذلك من قريب أو بعيد, فالكل مصريون بلا تفرقة أو استثناء, ولكن الذي حدث أن التشدد الديني في جانب أدي إلي رد فعل في الجانب الآخر وصنع التحفظ المتبادل والمخاوف المشتركة حتي أصبحنا أمام غليان طائفي مكتوم يجعل الطلاب المسيحيين ينزوون في إطار جيتو جامعي أو مدرسي مع الاتجاه نحو نوادي الكنائس بعيدا عن المعاناة المتحملة في المجتمع العام الذي يجب أن يضم الجميع في انسجام كامل. رابعا: إن الأمر لا يخلو من صراع طبقي, فالتيار الديني في معظمه يحتوي فقراء الناس بينما يتكون التيار المدني.. إذا جاز التعبير من أولئك الأكثر تعليما وأشد احتكاكا بالخارج وأكبر حيازة لمستويات اجتماعية أفضل, ولقد انعكس ذلك بشكل واضح في نتائج الانتخابات النيابية السابقة علي سبيل المثال حيث انتزع ليبراليان مقعدي دائرتي قصر النيل ومصر الجديدة في العاصمة المصرية بسبب التميز الطبقي النسبي للدائرتين واحتشاد المثقفين في كل منهما وهذا أمر لا يؤخذ علي إطلاقه فهناك أثرياء ينتمون إلي التيار الإسلامي وفقراء يتحمسون للتيار الليبرالي. خامسا: إن الصراع السياسي هو الذي يذكي حدة الانقسام ويكرس وجود الجزر المنعزلة ويعصف بروح الانسجام الوطني ويخلق بؤرا للصراع الذي يفقد للود كل قضية خروجا علي مقولة الإمام الشافعي( إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب). .. هذا طواف سريع يعالج موضوعا حيويا وملحا يهدد التركيبة المصرية التاريخية ويدفع بالجماعات السياسية والطوائف الدينية نحو جيتو ضيق تحتشد فيه كل جماعة سياسية أو طائفة دينية علي حساب الوطن العظيم الذي عشنا نفاخر به ونتغني بأمجاده عبر العصور! المزيد من مقالات د. مصطفى الفقى