لقد أدت تطورات الوضع السياسي في مصر منذ ثورة25 يناير2011 الي الآن, للوصول الي مرحلة حاسمة ازدادت فيها معدلات الاحتقان والتشاحن بين عدة أطراف وتبادل الانتقادات بين السلطتين القضائية والتشريعية وسعي من الأخيرة لفرض آرائها وتوجهاتها علي السلطة القضائية. وإبداء نوع من التمرد علي أحكامها خاصة أحكام المحكمة الدستورية, ونشوب صراع هاديء ولكنه قوي بين حزب الحرية والعدالة وأحزاب التيار الاسلامي المساندة له, وبين المجلس الأعلي للقوات المسلحة. المراوحة بين التوافق والاختلاف في المطالب ما بين التيار الديني والتيار المدني, والقول تارة إن شرعية البرلمان تعلو علي شرعية الميدان, وتارة أخري الجمع بينهما لدرجة ان نوابا منتخبين في البرلمان يتركون الكلام تحت قبته ويتجهون الي الميدان. وحالة أخري من الاحتقان والتجاذب بين مجلس الشوري والصحفيين وكيار الكتاب, وبين التيار الإسلامي والفنانين وأجهزة الإعلام, وبين هذا التيار والمجلس القومي للمرأة, وغيرها من الاحتقانات وتبادل الاتهامات وتداول آراء وأفكار للتيار الإسلامي كانت مثارة في أوائل القرن العشرين أي منذ نحو قرن من الزمان. وأوضح أن حالة الاحتقان هذه وعلي كل هذه الجبهات هي بمثابة إرهاصات تنذر بصراع قوي علي السلطة يضر بالمصالح القومية وبكل الأطراف, ويفسد ما أتاحته ثورة25 يناير من مناخ ديمقراطي كل شيء فيه أصبح مطروحا علي الطاولة للحوار بلا موانع ولاقيود إلا الأمن القومي ومنظومة القيم المجتمعية, حتي وإن تجاوزها البعض. إن المجتمع المصري يعيش مرحلة ثرية وخصبة اتسمت بالتجربة والخطأ وكبدت الأطراف الضالعة فيها وعامة الناس تكاليف باهظة من مظاهر عدم الاستقرار, وتوقف في معظم معدلات النمو الاقتصادي والمالي وتراجع في معدلات السياحة والاستثمارات. ولكن دائما ما تكون تكلفة المراحل المفصلية للتغيير باهظة حتي لاتنسي دروسها. ومن ثم فإن أهم مطلبين في المرحلة الحالية والقادمة هما استعادة الأمن والاستقرار حتي تعود الاستثمارات والسياحة وتسير عجلة النمو والتنمية, والمصالحة الوطنية لاستعادة الوئام وممارسة الديمقراطية بروح عالية بعيدة عن تبادل الاتهامات وتبني سياسة الرفض لكل شيء, والتصعيد نحو الصراع. تتطلب المصالحة الوطنية ان توظف خبرات حكماء الأمة من مثقفيها وعلمائها والشخصيات العامة المعروفة بسعة أفقها ورصانتها, من أجل إنهاء الانقسامات والتباعد بين عدة تيارات أهمها, الانقسام ما بين تيار ثورة25 يناير الذي يطالب بالتغيير الشامل في أسس ومنظومة الحكم ولا يرضي عن ذلك بديلا. وهو تيار يفتقر الي القيادات والآلية والأدوات التي تحقق له ما يطالب به. ومن ثم فإن أطراف هذا التيار قد يتفقون علي الأهداف ولكنهم يتفرقون ويتشتتون في ترتيب الأولويات. ويقابله التيار الإصلاحي الذي يري ان التغيير مطلوب ومرغوب فيه, ولكن في إطار معين وبخطوات تدريجية في اطار المنظومة القائمة مع أجراء بعض التعديلات وإسناد مهام وتكليفات لوجوه جديدة. وهذا التيار لديه البرامج والآليات والأدوات. وهناك الانقسام مابين تيار ثوري يساري مرجعيته التجربة الناصرية برؤية جديدة تأخذ في الاعتبار ماحدث في مصر والعالم من متغيرات ومستجدات. ويقابله تيار ليبرالي يري ان الزمن قد تخطي هذه التجربة بما استجد في مصر والعالم من تطورات فكرية وأيديولوجية واقتصادية ومالية واعتماد متبادل بين الدول. ويري ان تجربة الحرية الاقتصادية يمكن ازالة ما أصابها من تشوهات وفساد وتفضل المساهمة الفعالة في العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص اقتداء بتجارب دول أخري صاعدة. وكذلك الانقسام مابين تيار الدولة المدنية والدولة ذات المرجعية الدينية, ويتمثل الأول في شرائح من تيار ثورة25 يناير وتيار الإصلاح. ويضم الثاني التيار الديني الإسلامي وشرائح من ثورة25 يناير وبعض التيارات التي انضمت إليها. ناهيك عن الانقسامات داخل التيار الإسلامي من ناحية, وبينه والتيار المسيحي والليبرالي من ناحية أخري. وما يثار من قضايا قتلت بحثا واستقر المجتمع المصري علي تجاوزها في سياق. وإطار من الانصهار في بوتقة وطنية تظلل الجميع بالمصالح المشتركة. إن مطلب المصالحة الوطنية أصبحت له أولوية قصوي لتهيئة مناخ عام هاديء ومستقر حتي تسير المرحلة الحالية والمقبلة بخطي واثقة وثابته في مواجهة عدة تحديات كبيرة في مقدمتها استعادة الأمن والنظام, واستعادة الثقة فيما بين السلطات الثلاث الرئيسية في الدولة وهي السلطة التنفيذية, والسلطة القضائية, والسلطة التشريعية, واستعادة الثقة بين السلطة التنفيذية وعموم الناس. وأيضا لمواجهة التحديات الاقتصادية والمالية ومطالبة الشباب بالحرية والعدالة والمعيشة الكريمة, بعيدا عن مهانة البطالة وذل الفقر والعشوائيات. وفوق ذلك كله فإن تحقيق المصالحة الوطنية يساعد علي الانطلاق نحو المستقبل والخروج من الدائرة الجهنمية الضيقة للصراع واجترار الماضي, وممارسة مصر دورها الإقليمي والدولي بثقة واطمئنان