آخر تحديث.. أسعار العملات مقابل الجنيه اليوم الأحد 5-5-2024    «الإسكان»: تخصيص الأراضي بالمدن الجديدة تنمية شاملة وفرصة للاستثمار    مصدر: مدير الاستخبارات الأمريكية توجه إلى قطر لبحث مفاوضات الهدنة في غزة    أحد الناجين من الهولوكوست: أنا والكثير من اليهود ندعم قضية الشعب الفلسطيني    صور| ملحمة جماهيرية لدعم محمد صلاح.. ولد ليكون أسطورة ليفربول    3 ظواهر تضرب البلاد خلال ساعات.. «الأرصاد» تحذر من نزول البحر    عمرو أديب: «مفيش جزء خامس من مسلسل المداح والسبب الزمالك» (فيديو)    أمين الفتوى: الله شرف مصر أن تكون سكنا وضريحا للسيدة زينب    نافس عمالقة ووصل بالأغنية السعودية للقمة.. تعرف على رحلة «فنان العرب» محمد عبده    قصواء الخلالي: مصر لا تحصل على منح مقابل استقبال اللاجئين    نقابة البيطريين تحذر من تناول رأس وأحشاء الأسماك المملحة لهذا السبب    لدعم صحة القلب والتخلص من الحر.. 5 عصائر منعشة بمكونات متوفرة في مطبخك    إصابة 3 أشخاص في تصادم 4 سيارات أعلى محور 30 يونيو    وزير السياحة يشارك كمتحدث رئيسي بالمؤتمر السنوي ال21 للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    وكالات الاستخبارات الأوروبية: روسيا تخطط لأعمال تخريبية في أنحاء القارة    الفيضان الأكثر دمارا بالبرازيل .. شاهد    وزيرة الهجرة: نستهدف تحقيق 5 مليارات دولار قيمة أوامر الدفع بمبادرة المصريين في الخارج    منافسة بين آمال وأنغام وشيرين على أغنية نجاة.. ونبيل الحلفاوي يتدخل (فيديو)    حزب الله: استهدفنا مستوطنة مرغليوت الإسرائيلية بالأسلحة الصاروخية    نجل الطبلاوي: والدي مدرسة فريدة فى تلاوة القرآن الكريم    الهلال يحقق بطولة الوسطى للمصارعة بفئتيها الرومانية والحرة    أفراح واستقبالات عيد القيامة بإيبارشية ميت غمر |صور    فحص 482 حالة خلال قافلة طبية مجانية في الوادي الجديد    أعراضه تصل للوفاة.. الصحة تحذر المواطنين من الأسماك المملحة خاصة الفسيخ| شاهد    نائب سيناء: مدينة السيسي «ستكون صاعدة وواعدة» وستشهد مشاريع ضخمة    .تنسيق الأدوار القذرة .. قوات عباس تقتل المقاوم المطارد أحمد أبو الفول والصهاينة يقتحمون طولكرم وييغتالون 4 مقاومين    «ظلم سموحة».. أحمد الشناوي يقيّم حكم مباراة الزمالك اليوم (خاص)    الوزير الفضلي يتفقّد مشاريع منظومة "البيئة" في الشرقية ويلتقي عددًا من المواطنين بالمنطقة    لوائح صارمة.. عقوبة الغش لطلاب الجامعات    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب    ظهر على سطح المياه.. انتشال جثمان غريق قرية جاردن بسيدي كرير بعد يومين من البحث    روسيا تسيطر على قرية جديدة في شرق أوكرانيا    لجميع المواد.. أسئلة امتحانات الثانوية العامة 2024    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    تامر حبيب يعلن عن تعاون جديد مع منة شلبي    نقل مصابين اثنين من ضحايا حريق سوهاج إلى المستشفى الجامعي ببني سويف    انطلاق مباراة ليفربول وتوتنهام.. محمد صلاح يقود الريدز    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    لاعب فاركو يجري جراحة الرباط الصليبي    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    موعد استطلاع هلال ذي القعدة و إجازة عيد الأضحى 2024    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    عودة المهجرين لشمال غزة .. مصدر رفيع المستوى يكشف تفاصيل جديدة عن المفاوضات    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لك الله يا مصر‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 19 - 01 - 2013

إذا ماكانت الحلة قايمة علي النار هذه الأيام في مطبخ السلطة لطبخ اللحم الصحفي الكندوز الذي شبع غليان علي مدي قرنين من الزمان لكنه بقي عصيا علي النضج تبعا لطلب الأكال الذي قد يسمع ما تريد أن تقوله له لكنه لا يقبل أن ينشر ذلك للتسرع غير الممنهج في عملية السلق‏,‏ أو للنقص أوالزيادة في نسبة التشويح والتحمير وشعرة البهارات‏,‏ أو للسهو عن إضافة الحبهان وفصين مستكة لمحو آثار الزفارة, أو لحاجة الكندوز بالذات لكبشة شوربة ما بين وقت لآخر حتي لا تجف مفاصله وتتخشب نسائره ويحترق في قعر الحلة, وتطلع من الشبابيك لخارج الحدود رائحة الشياط.. و..ربما لأن ربنا استجاب لدعائنا علي كل طباخ انكشف ستره وسقط قناعه وظهر علي الملأ فاقدا أهلية الحرية والديمقراطية في إعداده طبخة قانونية ظاهرها هللا هللا برئ يجمع ما بين حرية الصحافة وحق الوطن والمواطن, وباطنها يعلم لله يوقف كلمة الحق في قلم الصحفي تخوفا من الحبس والطرد والغرامة والتشريد وسؤال الكريم وغير الكريم, ليس هو فقط وإنما كل من يتشدد له بدءا من محاميه المبتغي الجنة أو الشهرة إلي صحيفته التي أوسعت مساحتها لحروفه أو كما قيل لشططه أو لصاحبها الموافق علي نشر ذلك الشطط.. نفس طبخة اليوم مع اختلاف وجود الطباخين والأسياد لتقييد حرية الصحافة والتعبير تكررت من قبل مرارا وتكرارا لتقاومها الحركات الوطنية التي دفعت بأول مظاهرة شعبية قوامها عشرة آلاف مواطن يوم الجمعة26 مارس1909 للاحتجاج علي إعادة قانون المطبوعات, وتجددت الحشود الثائرة يومي الأربعاء31 مارس ثم الخميس أول ابريل من نفس العام.. و.. توالي طبخ التشريعات المقيدة للحريات المغلظة للعقوبات في عهد حكومات أحمد زيور1925, ومحمد محمود1928, وإسماعيل صدقي..1930 وكان العقاد قد وقف في نفس العام في مجلس النواب وهو عضو فيه ليحذر الملك من المساس بالحرية والدستور ويهدده بأعلي صوته: ألا فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس في سبيل صيانة الدستور وحمايته! لكن الملك تآمر مع إسماعيل صدقي علي الدستور وأوقف العمل به ولفق دستورا آخر وضع فيه الملك فوق الأمة, وسيق العقاد ليحاكم بتهمة العيب في الذات الملكية فحكم عليه بالسجن9 أشهر خرج بعدها ليستأنف دفاعه عن الحرية والدستور بالشجاعة ذاتها, وأن الدستور المصادر لابد وأن يعود للأمة من جديد لتنعم بحريتها وإنسانيتها.. وعندما عهد الملك فاروق إلي النحاس باشا بتأليف الوزارة في13 يناير1950 بعد فوز الوفد بالأغلبية الساحقة بالحصول علي228 مقعدا من مجموع مقاعد مجلس النواب البالغة319 كانت أولي بشائر خير الحكومة إلغاء الرقابة علي الصحف وكافة المطبوعات يتبعها إلغاء الأحكام العرفية لتنطلق الصحافة إلي سماء الحرية وينعم القارئ بالاختيار بين21 مطبوعة يومية و121 أسبوعية و127 نصف أسبوعية وشهرية وفصلية, وتنهض الأحزاب والتنظيمات السياسية لتطفو مشاكل مرحلة تاريخية كاملة علي السطح تحت مجهر الحقيقة معروضة للبحث والنقد والمطالبة بالتغيير والتطهير, وتمتد ألسنة الهجوم بالتصريح والتلميح لتطول الملك والسراي والتي كان من بينها أين الغذاء يا ملك النساء مما يفقد فاروق صوابه ليضغط علي حكومة الوفد لإصدار مجموعة تشريعات لتقييد حرية الصحافة.. ولما لم يوافق أغلبية الوزراء عليها لم يكن هناك سوي مخرج وحيد بتكليف أحد نواب الوفد في البرلمان بتقديم تلك التشريعات باسمه الشخصي.. ولعب المحامي اسطفان ماسيلي بك(1900 1990) عضو الهيئة العليا لحزب الوفد دور مخلب القط لمن أرادوا ممالأة المليك للبقاء في الحكم.. وما أن وقف اسطفان في البرلمان متآمرا علي الصحافة بمشروعاته المعطوبة حتي قوبل بحملة ضارية شنتها عليه الصحافة بفرسانها وأسودها بزعامة جريدة المصري الوفدية ورئيس تحريرها أحمد أبوالفتح في سلسلة مقالاته النارية بعنوان لك لله يا مصر.
أحمد أبوالفتح أحد رواد حرية الصحافة المصرية الذي استقال من عمله بالنيابة للتفرغ للصحافة مع أخيه محمود أبوالفتح مؤسس وصاحب جريدة المصري1936 1954 الساعي لإنشاء نقابة للصحفيين, المتابع حتي صدور قانونها, متبرعا بشقته بعمارة الإيموبيليا لتكون مقرا مؤقتا لها حتي اشتري أرض مقرها الحالي بشارع عبدالخالق ثروت مستعينا بأستاذ العمارة د. سيد كريم لوضع تصميم مبناها الذي شاهدنا فيه قبل إعادة بنائه كيف تسمو الديمقراطية كوسيلة وغاية واجتهاد, وكيف تذبح علي خشبة عرض قوانين التفصيل لتغدو ناديا وليست منارا.. وما أن يتولي أحمد أبوالفتح رئاسة تحرير المصري حتي ترتفع معدلات التوزيع من21 ألف نسخة إلي175 ألفا بشعارها الجديد الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة, وكيف لا تغدو مصري أبوالفتح في الصدارة وقد ضمت تحت لوائها كوكبة من أقلام الاستنارة: عبدالرحمن الشرقاوي, ولطفي الخولي, وصلاح حافظ, ويوسف إدريس, وعبدالرحمن الخميسي في إعادته صياغة ألف ليلة وليلة, والصاغ ثروت عكاشة شقيق زوجته ثريا يترجم روائع الفكر الإنجليزي ومنها سروال القس, وسعد مكاوي يكتب قصص الرومانسية القاهرية, وإذا ما كان الخميسي قد سبح بالقراءة علي البساط السحري للص بغداد فقد ردهم زكريا الحجاوي إلي جذور مجالات التعبير الفني الشعبي, ونزل بهم إلي ملاحم الريف والسواقي الخضر عبدالمنعم الصاوي... ويرشح الوفد أحمد أبوالفتح في انتخابات البرلمان1950 بدائرة عابدين أمام أحمد حسين زعيم مصر الفتاة لينجح باكتساح ويقف في البرلمان كالصخرة العاتية ضد جميع القوانين المقيدة للحريات.
و..يخوض أبوالفتح بقلمه انتخابات نادي الضباط لينجح محمد نجيب والضباط الأحرار, ويسقط اللواء حسين سري عامر ورجال السراي.. و..تحرق القاهرة في26 يناير1952 وتعلن الأحكام العرفية التي كان قد ألغاها النحاس وتعاد الرقابة علي الصحف, وتصدر السراي بيانا رسميا يحمل فؤاد سراج الدين تهمة الحريق تمهيدا لمحاكمته, فيتصل أحمد أبوالفتح بسراج الدين ويطلب منه أن يرد علي بيان السراي, ويعجب فؤاد باشا كما روي لي الكاتب الصحفي المخضرم عبدالرحمن فهمي ابن شقيقة أبناء أبوالفتح ليقول سراج الدين: كيف ستنشره في ظل رقابة صحفية عادت منذ ساعات بقوة وعناد.. فقال له أبوالفتح:( تعالي اكتب ومالكش دعوة), ويأتي سراج الدين للمصري ليكتب بيانا ملتهبا يحمل الملك بالأدلة والبراهين مسئولية حريق القاهرة, وقام أبوالفتح بإعداد صفحة أولي عادية ليوافق عليها الرقيب, وصفحة أخري تضم بيان السراي وبجواره بيان فؤاد سراج الدين, وصدر المصري بالصفحة الثانية ليثور الملك طالبا من علي ماهر رئيس الوزراء بإغلاق جريدة المصري لمدة أسبوع.. ويرفض علي ماهر لتهبط المساومة الملكية للغلق ولو ليوم واحد فقط, لكن رفض علي ماهر يظل قائما حاسما قائلا: إن هناك قانونا يقضي بتغريم الصحيفة مبلغا من المال كعقوبة مخالفة الرقيب.. وهذا ما سنفعله!.. وربما في تلك الجزئية بالذات التي لم يستطع فيها الملك فاروق بكل هيلمانه فرض أوامره علي رئيس وزرائه ما يظهر البدايات الحقيقية لهشاشة النظام الملكي التي استشعرها جمال عبدالناصر من قبل عندما قام اللواء عبدالرحمن فهمي سكرتير عام نادي ضباط البوليس بقيادة مظاهرة هي الأولي من نوعها في تاريخ البوليس حيث اشترك فيها جميع ضباط الأقسام من الإسكندرية لأسوان, فأرسل الملك حسن يوسف رئيس الديوان للتهدئة والتلويح بصرف بدل زي يوازي المرتب الشهري لكل ضابط بشرط مرور أسبوع علي فض المظاهرة للتأكد من جدية التلبية, فأتاه ردهم بأنهم رجال لا يشترون بالمال, وكانت تلك الواقعة كما صرح عبدالناصر فيما بعد إحدي الركائز التي شجعته للقيام بثورة يوليو لاستشعاره من وقتها مدي هشاشة وضعف السراي التي لم تستطع الصمود لمدة ساعتين فقط علي إضراب ضباط البوليس!
في مرحلة التدفق الثوري والحلم بالتغيير وشطب ملامح القهر والظلم والفساد التقيا وتوثقت العلاقة بين رجلين جاءا من رافدين مختلفين.. جمال عبدالناصر من بين الصفوف العسكرية, وأحمد أبوالفتح من طلائع القوي المدنية وعالم الكتابة والقلم, وكان من عادة عبدالناصر عندما يأتي المساء المرور علي جريدة المصري والسهر مع صاحبه في حديقة الندوات الثقافية والمناقشات المتنوعة بجميع تياراتها يسارا ويمينا التي يثريها علي الجانبين أمثال عبدالعظيم أنيس وخالد محمد خالد.. الخ.. وكان أبوالفتح أول مدني ينضم للضباط الأحرار ويحضر اجتماعاتهم السرية, حيث لم يجدوا يوما ما إلا منزله للاجتماع بعد منتصف الليل, وهو الذي حدد موعد قيام الثورة الذي كان متفقا عليه في البداية يوم الخميس الأول من شهر نوفمبر قبل موعد انعقاد البرلمان في دورته الجديدة, ولكن أخبار الضباط وصلت السراي, فتقرر تشكيل وزارة جديدة يكون حسين سري عامر وزيرا للحربية فيها كي يقوم بمهمة القبض علي جميع الضباط المتآمرين بما فيهم أحمد أبوالفتح الذي اتصل من الإسكندرية بالدكتور ثروت عكاشة أحد الضباط الأحرار كي يعجلوا بالموعد بعدما عرفت أجهزة الأمن أسماء اثني عشر ضابطا من التنظيم السري لتقوم الثورة ليلة تشكيل الوزارة الجديدة, وتصدر صحيفة المصري في صباح يوم24 يوليو بمانشيتات ضخمة مع صور للواء محمد نجيب قائد الثورة وضباط قيادته دون اكتراث بالأخطار التي يمكن أن يتعرض لها أبوالفتح هو وجريدته في حالة فشل الثورة.. وعلي مدي يومي24 و25 يوليو كانت الثورة تحاصر الملك وتطلق صواريخها المعنوية المضادة كي تحطم أعصابه فيستسلم لعلي ماهر حينما يذهب إليه طالبا تنازله رافضا جميع الأسماء المطروحة من قبل السراي مع إصراره علي معرفة أسماء الوزراء واحدا واحدا, وكان الملك علي طول خط التقهقر مستجيبا, وفي الوقت نفسه تمت محادثة طويلة من أحمد أبوالفتح لجمال عبدالناصر وثروت عكاشة ويوسف صديق بضرورة الإفراج الفوري عن الأخوين علي ومصطفي أمين بعد أن اعتقلتهما السلطات عقب قيام الثورة ب48 ساعة مع ضباط القلم السياسي وأفراد الحاشية الملكية.. وخرج مصطفي وعلي أمين في جنح الليل بعد ساعات وكانا في مكتبيهما بأخبار اليوم مع الصباح والمعروف أن صفية ابنة مصطفي أمين زوجة لحسين أبوالفتح ابن محمد شقيق أحمد ومحمود أبوالفتح المتزوج من زينب النحاس كريمة عبدالعزيز النحاس شقيق مصطفي النحاس وفي سرادق علي أمين يلاحظ فؤاد سراج الدين وأحمد أبوالفتح أن مصطفي أمين يقف وحده لتلقي العزاء علي باب السرادق فذهبا ليقفا معه ليخففا عنه وطأة المهمة الحزينة..
وتنجح الثورة بينما النحاس باشا وفؤاد سراج الدين يتلقيان العلاج في مصحة بسويسرا تصادف أن كان بها محمود أبوالفتح أيضا, حيث يفاتحه شقيقه أحمد بالتليفون بأن من مصلحة كل من النحاس وسراج الدين الحضور بسرعة لتأييد الثورة, خاصة أن من أهدافها عودة برلمان الوفد الذي قام بحله الملك والاستمرار في محاربة الإنجليز في القناة, واقتنع محمود أبوالفتح واستطاع بدوره إقناع النحاس الذي اشترط التوجه من المطار إلي منزله ليستقبل فيه اللواء نجيب هو ومن يريد من زملائه, وأبدا لن يذهب إلي مقر تلك القيادة كطلب أحمد أبوالفتح الذي اعتبر الحضور لمصر في حد ذاته خطوة علي الطريق.. وفي قاعة كبار الزوار في المطار استطاع المستقبلون إقناع النحاس بزيارة محمد نجيب في مكتبه بمقر القيادة بشارع الخليفة المأمون, علي أن يقوم نجيب بعدها برد الزيارة.. وكان لابد من قدوم النحاس في نظر البعض خاصة أن الإخوان قريبون من رجال الثورة بل لقد كان بعضهم من بين صفوف الإخوان, هذا إلي جانب أن رجال الحزب الوطني القديم برئاسة حافظ رمضان وفتحي رضوان بينهم وبين رجال الثورة وشائج احترام وتقدير متبادل.. وذهب النحاس لمقر القيادة بصحبة فؤاد باشا ومحمود وأحمد أبوالفتح, وفي الدور الأرضي بإحدي غرف مبني القيادة ينتظر الاثنان نحو40 دقيقة حتي حصل لهما أحمد أبوالفتح علي إذن بالصعود للطابق العلوي, حيث استقبلهما اللواء محمد نجيب في مكتبه ومن حوله ضباط مجلس القيادة, وظل الجميع واقفين بلا جلوس لمدة10 دقائق بطول الزيارة, وذكر سراج الدين بعدها أن محمد نجيب رحب بهما ببشاشة, بينما سلم الضباط بصرامة, فقرأ في أعينهم ما جعله يخاف علي مستقبل مصر, وقال النحاس لنجيب في نهاية اللقاء يودعه: أؤيدك وأدعو لله أن ينصرك ويوفقك علي الدوام..
و..بعد نجاح تباشير الثورة سعي أبوالفتح في أن يكون حلقة الاتصال بين رجالها والوفد نظرا لعلاقته الخاصة بعبدالناصر قبل23 يوليو وبعدها مباشرة, لكنه ما أن اكتشف نزعتها الديكتاتورية بسقوط الدستور حتي تحول موقف التأييد إلي المعارضة المطلقة اختلفت معه حول مسألة الديمقراطية, فنحن الاثنان قد اتفقنا حولها في البداية, وتمسكت أنا بها بينما تخلي هو عنها, فكانت النتيجة إما أن أبحث عن مصلحتي أو أن أدافع عن مبادئي التي آمنت بها طوال عمري, وقد نشرت في المصري يوم2 سبتمبر1952 مقالا بهذا المعني تحت عنوان: إلي أين؟.. لقد كانت ملامح الديمقراطية تختفي والضباط ينتشرون في كل مكان لتحقيق سياسة التمكين والإمساك بجميع مفاصل الدولة في أيديهم كوجودهم في الوزارات والمؤسسات وتلك كانت بداية خلافي معه.. وتظل المصري برئاسة أحمد أبوالفتح تدافع عن قضية الديمقراطية وتستحث لجنة الدستور الجديدة بالإسراع به ليري النور, ويكتب أبوالفتح في15 مايو1953 مقالا عنيفا بعنوان نعم للدستور اتهم فيه علي ماهر وبقية أعضاء لجنة الخمسين بالتعمد في تأخيره, حيث لم يستطع الرقيب المقيم بالجريدة إجازته إلا بعد عرضه علي الرقيب العام وقتها وهو الصاغ صلاح سالم الذي أمر بإيقاف الطبع حتي نشر مقال مجاور للرد, وكان المقال بعنوان الباكون والمتباكون الذي يتضمن قذفا علنيا في أبوالفتح والمصري والوفد والنحاس وسراج الدين والدستور والديمقراطة.. الخ وتهافت الناس علي شراء العدد الفريد, وتم بعدها منع أخبار مقابلات النحاس باشا التي كانت المصري تنشرها بعنوان الرئيس الجليل بعدما غيره صلاح سالم إلي الرئيس السابق واختفي بعدها اسم النحاس من المصري بعدما ظلت تحركاته يتابعها القارئ يوميا علي مدي26 سنة.. وإذا ما كان صلاح سالم قد احتفظ لنفسه بحق الرد علي أبوالفتح في نفس عدد المصري, فقد سبقهما في ذلك كل من السيدة روزاليوسف وعبدالناصر عندما كتبت تقول له في11 مايو1953: لقد قرأت لك أخيرا حديثا تطالب فيه بالنقد, وبالآراء النزيهة حتي ولو خالفتك.. ولكن.. أتعتقد بأن الرأي يمكن أن يكون حرا حقا وعلي الفكر قيود؟! وإذا فرض وترفقت الرقابة بالناس, واستبدلت بحديدها حريرا فكيف يتخلص صاحب الرأي من تأثيرها المعنوي؟.. يكفي أن وجود القيود كمبدأ ليتحسس كل واحد يديه.. يكفي أن يشم المفكر رائحة الرقابة, وأن يري بعض الموضوعات مصونة لا تمس, ليتكبل فكره, وتتردد يده, ويصبح أسيرا بلا قضبان..
وفي نفس العدد نشرت روزااليوسف رد جمال عبدالناصر في قوله: وأنا أكره كل قيد علي الحرية وأمقت بإحساسي كل حجر علي الفكر, علي أن تكون الحرية للبناء وليس للهدم.. ودعيني ألجأ إلي تجربتك كي تبقي الحرية للبناء ويبقي الفكر لله والوطن.. لا تخرج بهما شهوات وأغراض ومطامع عن هذه المثل إلي انقلاب مدمر يصيب مصالح الوطن المقدسة بأبلغ الأضرار.. لقد قلت أني أخشي علي موقف البلاد الصلب من إطلاق الحريات خشية أن يندس بين أمواجها دعاة الهزيمة والتفكك.. لقد عبرت بهذا عن جزء مما أشعر.. ومع ذلك فأين هي الحرية التي قيدناها؟ أنت تعلمين أن النقد مباح وأننا نطلب التوجيه والإرشاد, ونلح في الطلب, بل إننا نرحب بالهجوم إذا ما كان يقصد منه صالح الوطن وبناء مستقبله وليس الهدم والتخريب ومجرد الإثارة.. ذلك لأنني أعتقد أنه ليس بيننا من هو فوق مستوي النقد أو من هو منزه عن الخطأ..
وتعود روزااليوسف مدافعة عن الصحافة والصحفيين في27 ابريل1953 في مقال لها جاء فيه: كنت أري الرجل الكبير خارج الحكم لا يكف عن مهاجمة النفاق والمنافقين من أصحاب الصحف والصحفيين, ويتحدث بكلام كثير عن حاجتنا الشديدة إلي الأقلام النزيهة, وإلي المعارضة قبل التأييد, وإلي النقد قبل المديح, ثم تدور الأيام ويصبح الرجل الكبير وزيرا أو رئيسا للوزارة أو صاحب منصب من أي نوع, وإذا بي أراه يشرب من كأس النفاق ذاتها التي كان يحتسيها سلفه, ويجمع حوله نفس المنافقين, ويقرب إليه نفس المطبلين, ويلهث وراء كلمات المدح والإعجاب بقدر ما ينفر من كلمات النقد والتقويم, وإذا بهذا الرجل الذي كان يتشدق بالحاجة إلي النقد يعتبر وهو حاكم النقد عداوة, والخلاف في الرأي خصومة, والصراحة تشهير.. والسؤال.. هل هو الصحفي الذي يبيع النفاق, أم الحاكم الذي يشتريه, بل يوصي بصنعه؟!.. إن النفاق لن يختفي أبدا إلا إذا كسدت سوقه, وهو أمر في أيدي الحاكمين وحدهم.. واليوم تلوح لنا فرصة جديدة. ففي الحكم مسئولون جدد هم رجال ثورة وتجديد في كل شيء, ولديهم من أعمالهم ما يغنيهم عن النفاق.. وهؤلاء المسئولون الجدد وحدهم هم القادرون علي فض أسواق النفاق!
ويدعو ناصر روزااليوسف لزيارته في مكتبه بمجلس قيادة الثورة فترد علي من حمل لها الدعوة: إذا كان جمال يطلبني كحاكم فروزااليوسف لا تسعي إلي حاكم لا عن رغبة ولا عن رهبة, وإذا كان يطلبني لنتحدث حديث الأصدقاء فعلي أصغر الأصدقاء سنا أن يسعي لأكبرهم, وخاصة إذا كان مكان اللقاء مجلة طالما سعد بالذهاب إليها والسهر فيها مع شباب ثائر مثله.
وبعدما بلغ صراع السلطة أوجه في مارس1954 الذي حدث فيه العجب من أن توجه وزير الإرشاد الإعلام صلاح سالم إلي دار جريدة المصري وجري بكرباج خلف المحررين فهرولوا يجرون في شارع قصر العيني, وبنهاية أزمة مارس بدأت حملة تطهير مصر من أعداء الثورة سواء في الصحافة أو الجامعات أو القضاء أو..أو.. ويصف فتحي غانم ذلك المناخ بقوله: أطبقت الكماشة علي الصحافة والجامعة تحاصر الفكر والرأي وكانت مذبحة للعقول, وثمنا باهظا تحمله المصريون وقبلوا التضحية به ورفعوا بكامل الرضا عبدالناصر إلي مرتبة الزعامة الحقيقية, وكان أملهم مرة أخري بداية عهد جديد يتراجع فيه السيف ويتقدم القلم..
ولقد بدا محمد نجيب في تلك المرحلة منتصرا, وفي5 مارس تم إلغاء الرقابة, وفي25 مارس أعلن مجلس قيادة الثورة الإفراج الفوري عن السجناء السياسيين, مع الوعد بإجراء الانتخابات العامة في يونيو, ورفع الحظر عن الأحزاب, ولكن مظاهرات العمال تفشت لتشل البلاد, وفي28 مارس أعاد مجلس قيادة الثورة الرقابة من جديد مؤجلا الانتخابات, وأبعد محمد نجيب ليغدو عبدالناصر رئيسا للوزراء وسيدا وحيدا للسياسة المصرية, وتبنت المصري الدعوة لعودة الديمقراطية فثار معظم ضباط المجلس وقرروا غلق الجريدة والتنكيل بأصحابها, واعترض البعض ومنهم عبدالناصر الذي قال: كيف نبطش بصاحب الفضل الأول علي الثورة.. وقبل صدور الحكم علي صاحبي المصري بالسجن لمدة10 و15 عاما بيوم واحد زار جمال عبدالناصر أحمد أبوالفتح في الفجر ليعطيه سرا جواز سفر دبلوماسيا دائما, وكلفه بالسفر إلي بيروت علي الفور.. ويسافر المناضل في الخفاء وتصادر جميع أموال الأسرة وينتقل إلي سويسرا كلاجئ لمدة20 سنة ليرجع لوطنه بعد انتصار أكتوبر معاودا صحبة قلمه المقاتل من جديد علي صفحات الوفد في إطار مقال عنوانه رأي حر حتي21 مارس2004, بعدما قام بزيارة الرئيس السابق مبارك في قصر الاتحادية ليفاجأ بسجادة الأسرة الجوبلان التي لا تقدر بثمن تكسو الحائط الرئاسي بعدما أطلت زمنا علي صالون ضابط كبير ذي حيثية تجول بعد قيام الثورة بين التحف المصادرة واختار وأشار فلبي صف الجنود اتجاه التيار!
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.