عندما قدمت الكاتبة هبة عثمان كتابها ماسكجنا أوالسلام عليكم بلغة أهل النوبة توقف القراء أمام رؤية الكاتبة الشابة التي حاولت في كتابها أن تلم بالكثير من التفاصيل عن المجتمع النوبي. فإلي الآن ينظرالناس إلي المجتمع النوبي وكأنه مجتمع متحفي فلكلوري ولهذا تقتصر رؤيتنا علي الصور الفوتوغرافية والأزياء الشعبية وكأنها الملجأ الوحيد لفهم أهل النوبة والأكثر من هذا اننا وإلي الآن نعتمد علي كتاب النوبة. رواق أفريقيا الذي كتبه العالم الأمريكي وليم آدمز في السبعينات- وترجمه محجوب التيجاني- وجاء كحصاد عمله في إنقاذ الآثار النوبية في المنطقة السودانية وفي قصر أبريم في مصر. صحيح أن الفلكلور النوبي يبدو جزءا مبهرا من التراث المصري الا أن التاريخ الذي يعرفه المصريون عن أهل الجنوب لا يتعدي معرفتنا في المجتمع القاهري بقضية التهجير التي ظهرت مصاحبة لبناء السد العالي. فالمعروف أن السد العالي كان انقلابا في كل الحسابات وخاصة في حسابات الزراعة التي كانت وستظل هي العمود الفقري للحياة في مصر, فالفكرة التي حاول ابن الهيثم العالم العربي الكبير تطبيقها في زمن الفاطميين من ضرورة وجود سد عملاق يقي مصر من ضربات الفيضان أصبحت حقيقة مع السد, الا أن معابد الجنوب كانت ستكون أول من يتضرر من بحيرة ناصر حيث أن منسوب المياه في المنطقة الواقعة جنوباسوان كانت سترتفع بنسبة خمسين مترا عند النقطة التي بني فيها معبد أبو سمبل. ابو سمبل بعدسة ايطالية ولهذا لم تجد الحكومة المصرية- وبدفع من العالم الدكتور ثروت عكاشة- الا التقدم لمنظمة اليونسكو في عام1959 لإنقاذ آثار النوبة, وبعدها بأشهر قليلة تقدمت الحكومة السودانية بنفس الطلب لتوافق اليونسكو وتطلق حملة دولية في عام.1960 وفي عام1968 تنجح الحملة وبجهد و عمالة مصرية في جمع اجزاء معبدي أبو سمبل الألف وخمسمائة علي ارتفاع176 مترا فوق منسوب سطح البحر. والغريب أن هذه القصة لم تكن مجرد خبر يشبه أخبار افتتاح المشاريع الكبري التي تعج بها الجرائد, فقصة السد العالي والحفاظ علي بلاد النوبة قابلها اهتمام كبير من المثقفين والفنانين ومنهم تحية حليم الرسامة التي كانت ضمن عشرين فنانا وضع ثروت عكاشة تحت تصرفهم الباخرة النيلية الدكة لتطوف بهم في انحاء النوبة. وقد نجحت تحية و صورت المجتمع النوبي في لوحاتها وفاء النيل و زواج في النوبة ومهاجر من النوبة و فرحة النوبة بجمال عبد الناصر. الا أن هذا الفن الجميل وهذه الجهود لم تقدم جديدا لقضية التهجير التي ظلت هي الأساس الذي لابد وأن ينظر إليه نظرة موضوعية. أما بالنسبة للتاريخ فكثير من الأشياء يجهلها الناس, وكثير من مشاركات النوبة أو الجنوب في الحضارة المصرية القديمة مجهولة أيضا. فحضارة الكوش أو النوبة هي حضارة مصرية أصيلة, وعندما تذهب إلي المتحف النوبي في أسوان ستجد تماثيل مصرية فرعونية وإن أختلفت بعض ملامحها في كونها ملامح أكثر جنوبية. كما ستبهرك تماثيل الخيول الضخمة والجمال التي تشكل جزءا مهما في الموروث النوبي. ففي زمن رمسيس الثاني صاحب السيرة الملحمية الذي كتبت عنه كتب التاريخ التي صنعها ذكاؤه المفرط أكثر من كونه صاحب حنكة عسكرية شهدت مصر في نهاية عهده هجرات كبيرة ممن وجدوا في مصر ملاذا آمنا و مرفأ. و المؤسف أن هذه الهجرات قد عاصرت وقت وهنت فيه عظام الملك الشهير بعد أن بلغ الثمانين من العمر وبعد ان دخل في نهاية حكمه أكثر من تجربة غير ناجحة فطالت عليه تبعات الحكم والزمن, ولم يكن هناك بد من أن يتحمل غيره المسئولية و يقبل التركة الثقيلة. الا ان خليفته مرنبتاح و علي الرغم مما فعل ترك مصر منقسمة تعاني من الفوضي بعد انتهاء حكم الاسرتين الثلاثة و العشرين و الرابعة و العشرين علي غير ما يشتهي المصريون الذين لزموا الخلفية في الصورة الاجتماعية. فقد كانت مصر تعاني من أخطاء حكامها الذين فتحوا الأبواب أمام الحكم الاجنبي.. ولم تجد حضارة المصريين سفينة الإنقاذ الا في النوبيين الذي وجدوا شرعية في كونهم في الاصل من أبناء الارض ليعتلوا العرش و يؤسسوا الاسرة الخامسة و العشرين بنفس المنهج الثقافي والسياسي والعسكري للأسر السابقة. ولهذا فلابد أن نقرأ التاريخ قبل أن نذهب إلي النوبة. فقضايا الجنوب لابد وأن تحل باقتراب أكبر من التاريخ والجغرافيا حتي لا يأتي يوما الغريب الذي يفرض علينا رؤيته.