علي الرغم من ظلمة تنتشر أحيانا ويأس يعاودنا بين الحين والآخر; لا يكف المثقف عن ممارسة التفاؤل باعتباره أهم فعل ثوري, خاصة بسبب تراجع مؤسسات الدولة عن إنتاج ثقافة أصيلة تعيد بناء المجتمع في اتجاه وطن نريده، ومما يثير الفرح, ذلك التفتح العفوي لبراعم الثقافة البديلة مستهدفة دون تمييز شباب وسط البلد أو أطفال العشوائيات أو نساء القري . في تلك السلسلة ترصد صفة أدب تلك النقاط البديلة والإئتناس بتجارب أصحابها ممن يحتمون من برد ميدان أنشطة الثقافة الرسمية بشوارع جديدة تفتح أفقا علي كل ميادين الفن والمعرفة. المكان: تقع' دار الثقافة الجديدة' في المبني رقم32, الذي كان فخيما بشارع' صبري أبو علم' متفرعا من ميدان طلعت حرب( سليمان باشا الفرنساوي سابقا), وانسحب علي المبني ما ألم بالوطن ووسط المدينة التي كانت ملتقي الصفوة والأثرياء حتي منتصف القرن الماضي, ليعاني من الإهمال الذي يلتهم بهاء في طريقه إلي الاندثار, وهو ما لم تنج منه دار الثقافة الجديدة في وقت سابق حتي حالفها الحظ بإعادة إحيائها علي يد من أخلص في محبته للفن والثقافة والمكان. التاريخ: لعقود اقتصر الاهتمام بدار الثقافة علي كل من أراد أن يشتري كتبا يمكن وصفها باليسارية, وهو ما أراده لها مؤسسها المثقف اليساري الراحل محمد يوسف الجندي- نجل المناضل الوفدي مؤسس جمهورية زفتي وأحد قيادات ثورة1919-, الذي أسسها بعد5 سنوات من الاعتقال حتي عام1964, لتكون منبرا للفكر الماركسي والاشتراكي والوطني بنشر أكثر من500 كتاب في الفلسفة والفكر والتاريخ والأدب والفن منها: أعمال البدايات لإبراهيم عبد المجيد وإبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم وغيرهم, مما كان سببا في المراقبة والمصادرة طيلة السبعينيات وبداية الثمانينيات لمشاركة' الجندي' في إنشاء حزب التجمع, وتأسيس' دار العالم الثالث' التي سارت علي النهج اليساري نفسه مصدرة ما يزيد عن المائة كتاب, فضلا عن المشاركة في تأسيس مركز دراسات' أفاق اشتراكية'. وشيئا فشيئا, بانزواء اليسار ورحيل' الجندي' في2008, وسفر ابنته' نادية', حرص صديق' الجندي' الوفي الروائي' صنع الله إبراهيم' علي بقاء الدار علي قيد الحياة إكلينيكيا بمساعدة موظفيها لفتحها وإغلاقها قبيل الثالثة عصرا لتفقد علاقتها بعشاق الثقافة ممن اعتادوا ارتياد وسط البلد مساء. الحاضر: قبل عام واحد فقط وفي أكتوبر2011, عرفت المكتبة المغلقة معظم غرفها السبع' علي محمد علي' أو' علي الفارسي' كما يعرفه الجميع, الذي يحمل روحا مثقفة خبرت الحياة بين دراسة للآثار وعمل في أحد البنوك وهواية للفنون التشكيلية, ليتولي بترشيح من' صنع الله إبراهيم' إدارة الفترة المسائية للدار بعد تقاعده المبكر; ليجد' الفارسي' نفسه بين أرفف تتزاحم بكتب لم يقربها أحد منذ سنوات, بعضها لم يعد طبعه منذ عقود. تعامل' الفارسي' مع المكان باعتباره ملاذا وكنزا غمره الزمن بتراب النسيان, فنفضها القادم الجديد وأعاد توزيع الأرفف وأضاف المزيد من الإضاءة والموسيقي وتخلص من مخلفات ألقت بطاقتها السلبية علي المكان الذي سرعان ما امتلأ بالطاقة الإيجابية والناس أيضا ولتكتمل البهجة بتحوله إلي ملتقي حقيقي للثقافة البديلة, حيث ينضم إلي' الفارسي' كل مساء قراء هواة ومثقفون محترفون من كل الأعمار في صالون ثقافي عفوي لا يغلق أبوابه قبل منتصف الليل في أغلب الأحوال. وتحول اللقاء اليومي إلي ملتقي ثقافي كل أحد لمناقشة عمل أو عقد ورشة كتابة أو سماع قراءة شعرية أو مناقشة قضية فكرية في ندوات كان من بينها ما تم تخصيصه لشرح كتاب' رأس المال', أو مناقشة كتب مثل' يوميات الدولة الإسلامية في السودان', و'شريعة الأغيار', أو الاحتفاء بذكري مؤسس الدار, أو مناقشة' د.شريف حتاتة' في مجمل أعماله, والاحتفال بإعادة إصدار مجلة' الطليعة21', أو جلسة قراءة لشاعر العامية أشرف الضيف, وأخري للشاعر الفلسطيني يوسف القدرة, أو سماع موسيقي وغناء' شيكو', أو مشاركة شعراء سكندريين لإبداعهم وهمومهم مع أقرانهم في العاصمة. المستقبل: بحضوري بعض تلك اللقاءات- التي تشكل تراكما ملحوظا- لفت نظري رواد المكان من الشباب المتحمس وتحطيمهم للفكرة النمطية عن الشاب المصري العزوف عن القراءة والمتابعة, مما يؤكد أنه بحاجة لديار حقيقية للثقافة بعيدة عن الندوات الرسمية التي تضطر جهاتها المنظمة للاستعانة بموظفيها للحضور لضمان التمثيل المشرف أمام الكاميرات. أما' دار ثقافة الجديدة' وعلي قلة ظهور من أعادها إلي الحياة في وسائل الإعلام الرسمية إلا أنها وجدت في' الفيسبوك' بديلا كشبكة تواصل تربطها بالباحثين عن ثقافة بديلة تقدمها دار حقيقية للفكر والثقافة في إحلال محمود لمؤسسات رسمية فقدت روحها ليضل الجميع طريقه إليها, حتي تصفو السماء وتعاود مؤسسات الدولة دورها الحقيقي لا الوظيفي البارد.