غير أنني أري أن قضية الثقافة ليست أقل خطورة من القضايا السابقة بحيث يتعين تأجيلها، وخصوصا أن وزارة الثقافة تقع من بين اهتمامات المجلس العسكري، فقد كان إصرار المجلس علي تعيين وزير للثقافة يعد دليلا علي اقتناعه بأهمية الثقافة، رغم أنه قد تم تعيين الدكتور جابر عصفور في أول وزارة بعد ثورة 25 يناير، والرجل استقال بعد أن وجد أن بعض أعوان النظام لا تزال تمارس نفوذها . وفي التعديل الوزاري التالي جاء الأستاذ الصاوي، وقد واجهت الرجل عاصفة من الاعتراضات، قبل أن يفتح فمه بكلمة واحدة وكان هذا نوعًا من التسرع لا معني له، كان ينبغي أن نتركه يتكلم، ويجرب ثم جاء بعد ذلك الدكتور عماد أبوغازي الوزير الحالي والذي نأمل منه الكثير. نحن في معرض مناقشة إعادة تقييم وتأهيل لأجهزة وزارة الثقافة، وكان من نتيجة ذلك أن ظهر مصطلح المؤسسة التي هي الوزارة، وهو مصطلح خطير يعني لدي المثقفين أنهم قد انقسموا الي قسمين: قسم يتبع المؤسسة، وقسم آخر خارجها. القسم الذي يتبع المؤسسة يدافع عنها، ويكتب عن إنجازاتها الورقية. في حين أن القسم الآخر، لا يري إنجازات، ويري أن كل تلك الإنجازات، عبارة ضجيج مربك يسبب الصداع أكثر ما يسبب التفكير الرصين. ويري هؤلاء أن هناك نوعًا من التردي الثقافي استمر متصلا لمدة خمسة وعشرين عاما دون انقطاع. مؤخرًا، كانت الوزارة بصدد مؤتمر للمثقفين سوف يعقد، وكانت الأسباب الداعية إليه واهية، وإن كانت تميل الي جذب مزيد من التأييد لسياسة الوزير، وربما اصبح مصير هذا المؤتمر غامضا، وربما يفكر الوزير الحالي في إلغائه. لأجل هذا أري أن الحاجة أصبحت ضرورية، إلي عقد مثل هذا المؤتمر، نريد مؤتمر أكثر شفافية، وأكثر تقديرا ووصفا لحالة الثقافة. لعل أهم قضية جوهرية سوف يناقشها هذا المؤتمر هي قضية حرية التعبير الحقيقية وليست حرية التعبير أحادية الجانب والتي خيمت علي أعمال بعض هيئات الوزارة كلها، من الهيئة العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة والمجلس القومي للترجمة والأعلي للثقافة، وغيرها من هيئات وزراة الثقافة الكثيرة والمتماثلة، والتي لها تعامل مباشر مع الثقافة والمثقفين. حرية التعبير التي نقصدها هي أن يكتب الكاتب ما يعن له، ويتقدم للهيئة العامة للكتاب، فيكون معيار التقييم الوحيد هو الإضافة الفكرية أو الثقافية، وقدرته علي التعبير عن أفكاره والدفاع عنها، لا بصوته العالي، ولكن بأسلوبه الرشيق، ومدي التجديد الذي أضافه الكاتب، ومدي التزامه اللغوي والتعبيري مع قواعد اللغة والأسلوب. وربما كان غياب هذا المعيار عن هيئات وزارة الثقافة، هو ما أدي الي تحولها الي الانحدار في الوقت الذي ظهرت فيه أعداد من دور النشر الخاصة، التي التقطت ما رفضته هيئات الوزارة من كتب وإبداعات، ومن هذا الأدب المرفوض صنعت دور النشر الخاصة سمعتها المحترمة في مجال النشر، واكتسبت أعدادا هائلة من القراء، لأنها احترمت عقلية القارئ، وقدمت له ما يريد أن يقرأه بالفعل، لا ما تريد المؤسسة للقارئ أن يقرأه. لأجل هذا أرجو من السيد الوزير الجديد، أن يعلن، وفي أقرب مناسبة، وعلي وجه الاستعجال تأييده لمبدأ حرية التعبير، وأن يكون مدخله إلي هذا اقتناعه هو شخصيا بحرية التعبير التي حدثت في ميدان التحرير، والتي أسقطت أكبر عقلية متحجرة، كان أكبر همها كبت حرية التعبير، وربما كانت حرية التعبير التي تحققت تلقائيا في ميدان التحرير هي أكبر معول ساهم في هدم النظام السابق، وأجهزت عليه وعلي أعوانه. وسوف تكون حرية التعبير أكبر عامل من عوامل تثبيت الديمقراطية الجديدة والوليدة، ولا أكون مزايدا إذا قلت: إن حرية التعبير هي أول من يمنع المتربصين من الانقضاض علي الثورة، وتحويلها إلي اتجاهات يمينية أو يسارية، قد تعصف بتلك الحرية. ربما أيضا كان من أهم ما يواجه الوزير الجديد هو إيمانه بأنه يقود الثقافة في مرحلة بالغة الخطورة، حيث لم يحدث التغيير من اليسار إلي اليمين أو العكس، كما كان متبعا في التغيير الثقافي في العصر السابق، وإنما هو نوع من تغيير العقليات القابعة علي أجهزة الوزارة، والتي لم تعد تطيق التغيير أوتتقبله، فلم تعد فكرة حذف فكرة أو فقرة أو صفحة أو موضوع او رفض كتاب، فكرة مقبولة في الوقت الراهن علي الأقل! لقد قيل في ميدان التحرير ما لا يمكن تخيله، لأجل هذا لا يجوز حذف أو حجب أو منع ما دون ذلك. علينا أن نترك الكاتب والقارئ في مواجهة معا، وجها لوجه، في تفاعل حضاري غير مسبوق، فالكاتب الجيد سوف يفرض نفسه علي قارئه، وقارئه لن يمل منه، ولن يندم علي شراء كتابه، أو قراءته، وسوف يبحث عن كاتبه في أي رف مكتبة كان، تماما كما ظهرت أسماء ونجوم مصرية لامعة في عالم الأدب، لم يعد في الإمكان التعتيم عليها أو حجبها، مثل صنع الله ابراهيم وعلاء الأسواني وطارق امام وبلال فضل ومكاوي سعيد ومحمود الورداني وحجاج أدول وسهيرالمصادفة وعبلة الرويني ومحمد شعير والمنسي قنديل، ومن الشعراء فاطمة ناعوت وعبد المنعم رمضان وحلمي سالم وعماد فؤاد، وغيرهم وليعذرني أصدقائي الآخرين لأن ترتيب الأسماء واستحضارها يخضع لذاكرتي المجهدة. ولو استطردت لملأت صفحات المقال، وهؤلاء الكتاب تتميز أعمالهم بالجراءة والتميز، لقد ظلت وزارة الثقافة طويلا تحمي أجهزتها من هؤلاء الكتاب والمثقفين، ولكنهم رغما عنها كتبوا ونشروا وبرعوا وأصبح لهم قراء يفوقون قراء وزارة الثقافة الرسميين. إننا نريد من وزارة الثقافة أن تجذب كل المثقفين المصريين من كل الأطياف، ولا تميز بينهم بسبب موقفهم من الوزير أو كبار رجال الوزير، وإنما يجب أن تحدد المواقف حسب الإبداع والتميز والمقدرة علي تقبل النقد، و تحمل فكرة حرية التعبير وتفعيلها، وربما كان من بين مثقفينا وكتابنا من لا يطيق سوي حرية التعبير عنه، والكتابة عنه، اما نقده ومناقشته فإنه ثقيل عليه. مجلس الثقافة الأعلي الذي نريده حرا، لا يخضع لسلطان الوزير، وأن يضم نخبة من المثقفين تكون عضويتهم في المجلس حسب ما قدموه للثقافة، لا بسبب وظائفهم التي وضعهم فيها الوزير، لأن أعضاء المجلس الأعلي للثقافة هم قضاة الثقافة، والمحكمين لجوائز الدولة والتي ستصبح بفضلهم جوائز رفيعة المستوي مهما قلت قيمتها المادية. إننا لا نريد أن تظل الثقافة تعبئ مثقفيها حتي التخمة، ويصبح المثقف متعاليا متكبرا علينا، يطل علينا من برجه المرتفع، ويلقي إلينا ما يريد ويغلق النافذة خلفه. أمام الوزير خيارات محددة هي كما ذكرنا حرية التعبير، وأن تكون الثقافة للجميع، وأن تبتعد عن الترويج لأفكار الحاكم ومشروعاته وأن تعود فكرة ثقافة الشعب كما كانت من قبل، ثقافة للجميع، وهي الثقافة التي سادت قبل العصر الحالي واختفت بعد ذلك. كما يجب أن ينظر إلي المسرح باعتباره أداة كبري للثقافة، وأن يخرج المسرح من فكرة مبني خاضع للمواصفات الأمنية، إلي مسرح حر مفتوح علي الجميع، دون خشية الحرائق التي هيمنت علي الإنتاج المسرحي في السنوات الأخيرة، كان الحريق الذي يخشونه هو حريق الأفكار، لا حريق الأجساد، فاحترقت الأجساد دون ثمن ودون أن يعبأ أحد بحارقيها. المسرح الذي نريده هو المسرح الحر غير المقيد والمعبر بحق عن روح الثورة.